لا يكاد يمر أسبوع واحد على السوريين دون أن يتعرضوا إلى صدمة من نوع ما، أو مفاجأة، تثير بينهم الجدل وتعمق الانقسام، وتصيب غالبيتهم بالخيبة والذهول، بل وتزيد في حيرتهم وخذلانهم من نخبهم ومثقفيهم أو من يسمون بذلك، وتضعهم دوماً أمام أسئلة معقدة تتعلق بالواقع والمستقبل والمصير بعد كل معاناتهم وآلامهم وتضحياتهم التي قدموها على مذبح الحرية والكرامة الإنسانية.
كتبنا، وفي هذا المكان بالذات، مراراً عن دور النخبة ومسؤولياتها وأزمتها وكلما اعتقدنا أن الأمر قد أتخم نقاشاً وجدلاً نعود مضطرين إلى الخوض فيه، وهذه المرة للحديث بشكل واضح ومباشر عن ما يسمى مراكز الأبحاث والدراسات، وعن فئة الباحثين والدارسين وبعض كتاب المواقع والصحف وشاغلي الناس بترهاتهم على أقنية اليوتيوب الخاصة التي لا تخضع إلى أية مساءلة أو مراجعة.
بداية نشير إلى أن عالمنا العربي حتى الآن يفتقد، بالمعنى الدقيق للكلمة، لمراكز أبحاث ودراسات علمية متخصصة في القضايا التي تشتغل عليها، وذلك يعود أصلاً لغياب منهجيات علمية حديثة في جامعاتنا تخرج وتعلم أصول البحث العلمي ومناهجه وأساليبه، وأما الدارسين في جامعات الغرب المرموقة والمحترمة فنسبة كبيرة منهم قد وقعوا تحت تأثير نظرة الغرب لقضايانا ومجتمعاتنا، حتى أصبحوا مروجين لأفكار وقيم لا تنسجم وتاريخنا وتطلعاتنا، ووقعوا في تناقضات التوفيق بين الحضارة والحداثة، التراث والمعاصرة، ببن الحفاظ على الهوية والذات، وبين الانحلال والانجرار وراء متاهات وقيم العولمة وأفكارها الخبيثة في تشييد صروح المادية ونزعاتها الذاتية، وفقدان أي ملمح للاستقلال والقدرة على النهوض والتنمية والبناء.
الإشكال الحاصل اليوم هو دور هذه المراكز وعلاقتها بالسياسة بمعناها الراهن والمتداول واليومي، والإيديولوجيات التي تتبناها رغم محاولات الادعاء بالتخلي عنها أو التحلل منها وتجاوزها، سواء أتوا من إيديولوجيات شمولية ذات طبيعة يسارية أو دينية، فتحت صفة باحث وكاتب يمارس الكثيرون أدوارًا سياسية، إن لم نقل مشبوهة فهي ملتبسة، ومرفوضة، لتمرير أفكار ومشاريع ومصطلحات لا تمت للواقع والحقيقة بصلة، ولا تعزز قيم وحدة مجتمعنا، وانتماءه، أو استقلال إرادتنا وبناء دولتنا المنشودة.
ونحن هنا لسنا ضد ممارسة السياسة، بل على العكس ندعو الكل لممارستها فهي تعبير عن النضج والتفاعل الايجابي وفي حالتنا واجب وطني، ولكننا ضد الخلط بين الصفتين أو تمرير المصالح السياسية الضيقة والانتهازية تحت صفة وزعم البحث العلمي التي تحولت مصدر رزق لبعض هؤلاء دون كفاءة أو قدرة علمية.
في السياق ذاته لا يخفى على أحد من المهتمين والمتابعين (صناعة المصطلح) وترويجه وتثبيته وهو ما دأبت عليه، في ندواتها وحواراتها، بعض هذه المراكز، وتلك التي تصدت لمهام التوثيق وتسجيل الوقائع واليوميات، دون منهجيات واضحة، وواقعية وشفافة بعيداً عن المزاجية والانتقائية والرغبة في إبراز هذا الحدث وتضخيمه أو تغييب تلك الواقعة والتقليل من شأنها.
في الذهن والبال الكثير من المراكز التي كان دأبها الإساءة لتاريخنا وتشويهه والحط منه تحت مزاعم نفض الغبار عن تراثنا وإعادة قراءته وتشذيبه وصولاً إلى الحديث والدعوة إلى نبذ العنف التي توصلنا إلى “السلام” وأوهامه المزعومة.
في دور النخب والمثقفين كلام كثير لا يتسع له هذا الحيز الضيق، لعل مبتدأه فشل هذه النخبة في قيادة الجموع المنتفضة والثائرة، وتقديم خطاب وطني متوازن، للداخل والخارج، وصراعاتها البينية، ومن ثم توالي زلازلها الفكرية والثقافية والمعرفية التي كان أقلها ثمين ومفيد وأغلبها رث وضعيف، بل ومشبوه، وغير حمال أوجه كما يبرر البعض لذاته أو أقرانه، وفي المثال على ذلك دعوات الصلح مع “إسرائيل” والانكفاء على الذات الوطنية ومظلوميتها، وعدم الاكتراث لما يجري حولنا وفي محيطنا تحت أوهام الاعتقاد باستقلالنا عن عمقنا الجغرافي، هذه الدعوات التي ترد على أكثر من لسان، وفي أكثر من سياق، وتحمل أكثر من معنى، تأتي في وقت ترتكب فيه “إسرائيل” أبشع وأفظع وأشنع الجرائم التي عرفتها البشرية في تاريخها بحق أهلنا في غزة وفلسطين عموماً.
آن الأوان لوضع كافة هذه المؤسسات تحت المجهر، والمطالبة بالكشف عن مصادر تمويلها، بشفافية مطلقة، ومساءلة القائمين عليها عن غاياتهم وأهدافهم، وعن أي حرية يتحدثون، أو ينشدونها لشعبنا؟؟؟ أيضاً التصدي لكافة الشخصيات التي تهزي بما هو خارج الإجماع الوطني، وبعيداً عن ثوابتنا وتاريخنا ومعتقداتنا، لأنها بذلك تضلل العامة وتغرقهم بما لا طائل لهم به …
ليس عسيراً علينا فهم طبيعة هذه المشاريع، وتحت أية عباءة تتدثر، ومن يقف خلفها وإلى ماذا ترمي، ولكن تعترينا الخشية من نجاحها في تحقيق بعض الاختراقات هنا وهناك، وإن كان الانصاف والموضوعية يقتضيان الاعتراف والاقرار بوعي أهلنا وشعبنا، وثقتنا بذلك مطلقة، في رفض بعض ما يقوم به القائمون على هذه المراكز من زيارات وأدوار، أو ما يسوقونه من توصيفات ومصطلحات، أو لي لعنق حقائق التاريخ والواقع لتمرير أفكار سبق ترويجها وتجريبها وفشلها.
إننا ندعو من منبرنا هذا إلى صحوة وطنية، صادقة وجادة، وإعادة تعريف مصطلحاتنا وضبطها، كما إشهار مدونة سلوك وطني تحفظ ثوابتنا وتضحياتنا، آمالنا وأحلامنا، دون شطط، أو استغلال لضعفنا وتشظينا.
ما تبقى من نخبة وطنية عليها تحمل مسؤوليتها والقيام بدورها وواجبها قبل أن يستمرئ هؤلاء في هذيانهم …ووقاحتهم.!!
المصدر: موقع ملتقى العروبيين