لعل من أبرز التداعيات التي أفضى إليها تعاظم النفوذ الدولي على الجغرافيا السورية تجسّدت في تعدد سلطات الأمر الواقع، وذلك ابتداءً من طرد قوات النظام من محافظة إدلب في آذار 2015 وسيطرة الفصائل الإسلامية عليها، مروراً بطرد تنظيم داعش من مدن شمال غربي سوريا من جانب القوات التركية وبالتنسيق مع فصائل الجيش الحر في شهر آب من العام 2016، ومن ثم قيام التحالف الدولي بطرد تنظيم داعش نفسه من مدن وبلدات شمال شرقي سوريا بالتنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية عام 2019.
وعلى الرغم من الاختلاف والتباين في بنية تلك السلطات التي تسيطر كل منها على حيّز جغرافي، سواء من حيث التوجهات الأيديولوجية أو من حيث الولاء للجهة الدولية الراعية، إلا أن هذا التباين لم يحل دون وجود محددات مشتركة فيما بينها، وذلك بحكم نشأة تلك السلطات التي لم تكن منبثقة من خيارات شعبية بقدر ما هي صنيعة إقليمية أو دولية مهمتها بالدرجة الأولى حراسة ورعاية نفوذ الدولة الراعية.
وبالتالي، فإن المشتركات بين تلك السلطات من حيث البنية والتركيب ستنطوي أيضاً على مشتركات أخرى من حيث التحديات التي تواجهها.
وعلى الرغم من المحاولات الكثيرة التي تبذلها كل سلطة على حدة في محاولة لشرعنة وجودها، تارة من خلال سياسة الاحتواء المبطنة بالعنف كما لدى سلطة الإدارة الذاتية، وتارة أخرى من خلال “قوة الشوكة” كما لدى حكومة الجولاني، وحيناً آخر من خلال المأسسة الشكلانية الهشة كما هو الحال لدى الحكومة السورية المؤقتة، إلا أن جميع تلك المحاولات فشلت في مواجهة اثنين من أهم التحديات التي واجهتها.
ويتمثل التحدي الأول في الجانب الأمني الذي ظل الهاجس الأكبر الذي يؤرق حياة المواطنين، بل يمكن القول إن سلوك تلك السلطات حيال المواطنين قد جسّد الاختراق الأكبر للحالة الأمنية، بسبب غياب المنظومات القضائية المستقلة عن السلطات التنفيذية. وإن وُجدت تلك المنظومات، فإنها في أحسن الأحوال ظلّت خاضعة خضوعاً مباشراً للسطوة الأمنية أو العسكرية. ويتمثل التحدي الثاني في عدم القدرة على الاستجابة للمطالب المعيشية والاستحقاقات الحياتية للمواطنين، إذ غالباً ما سعت تلك السلطات إلى تسخير واستثمار معظم موارد المناطق التي تسيطر عليها لصالح بناها وكياناتها السلطوية، بل ولأفرادها المتنفذين، دون أن يكون لمصالح مواطنيها أي اعتبار. الأمر الذي عزز القناعة لدى غالبية السكان بأن حقوقهم في الحياة والعمل والعيش الكريم هي ملك يقبض عليه من يحكمهم بقوة السلاح. وبالتالي، كان لا بدّ من حالة الانفجار الذي بدأت إرهاصاته في الشمال السوري، ثم بدأ بالتبلور، سواء في إدلب، أو في اعزاز وعفرين وبلدات أخرى، والذي تحوّل إلى موجة حراك شعبي بدأت تنحو باتجاه التأطير متمثلةً باعتصام الكرامة منذ الأول من تموز الماضي. بل إن تزامن هذه الموجة من الحراك مع انتفاضة مدينة السويداء بدأ يعيد إلى الأذهان فكرة تجدّد الحراك الشعبي في سوريا كما كانت في بدايات انطلاقة الثورة، وخاصة أن مطالب الحراك سواء في جنوب البلاد أو شمالها تكاد تتماهى مع مطالب جمهور الثورة على العموم.
فقد جيش العشائر مشروعيته في تمثيل المطالب الأساسية والعادلة للمواطنين، باعتباره أضحى قوة تابعة أو متحالفة مع الأسد وطهران.
حراك دير الزور ومخالب العسكر
أما في شرق البلاد، وتحديداً في دير الزور، فإن حالة الانفجار الشعبي كانت أشدّ اشتعالاً، إذ سرعان ما انتقلت المطالب الشعبية من طور الاحتجاجات السلمية إلى طور المواجهات العسكرية، تجسّدت موجتها الأولى في شهر آب من العام 2023 من خلال مواجهات دامية بين جيش العشائر وبين قوات قسد. وكان يمكن لتلك المواجهات أن يكون لها تداعيات أخرى لولا لجوء قيادة جيش العشائر إلى قوات نظام الأسد، نتيجة لسلبية موقف قيادة التحالف الدولي من جهة، ونتيجة للضغط العسكري من قوات قسد من جهة أخرى. الأمر الذي أفرغ حركة العشائر من مضمونها الثوري وجعلها تظهر بمظهر القوة الحليفة أو المدعومة من قوات نظام الأسد. ثم تجددت المواجهات بعد عام بالضبط، إذ بادر في السابع من شهر آب الماضي جيش العشائر باستهداف قوات قسد من خلال هجمات خاطفة، ولكن بصورة ربما كانت أكثر جلاءً، حيث قامت ميليشيات إيران وقوات النظام الموجودة بالضفة الغربية لدير الزور بتقديم الدعم لجيش العشائر. الأمر الذي أظهر هذا الأخير بمظهر القوة المدفوعة من جانب إيران ونظام الأسد لاستهداف حلفاء الولايات المتحدة الأميركية ومصالحها في المنطقة. وهكذا فقد جيش العشائر مشروعيته في تمثيل المطالب الأساسية والعادلة للمواطنين، باعتباره أضحى قوة تابعة أو متحالفة مع الأسد وطهران.
إن المطالب الشعبية لأهالي دير الزور، كما مطالب جميع السوريين، مطالب عادلة ومحقة وفي غاية المشروعية، والمجاهرة بتلك المطالب هي مسعى نضالي ثوري.
الحراك الشعبي أكثر رسوخاً من السلاح
لا شك أن توقف المواجهات العسكرية بين الأطراف المتناحرة في دير الزور، وقوفاً مؤقتاً أو بعيد المدى، لا يعني أبداً توقف معاناة مواطني دير الزور، كما لا يعني أبداً وجوب السكوت عن الحقوق والتغاضي عن الانتهاكات التي تمارسها سلطات قسد بحق المواطنين. ولكن السؤال الأهم هو التالي: هل يمكن للمطالب الشعبية في دير الزور أن تتجسّد بنشاطات تتخذ من الحراك الشعبي إطاراً لها، على غرار ما هو حاصل في شمال البلاد وجنوبها؟ وهل ثمة جدوى في الوثوق الشعبي بجيش العشائر أو أي قوة عسكرية أخرى لتمثيل مصالح المواطنين؟
بداية يمكن القول بأن أي رهان شعبي على قوة عسكرية في دير الزور – سواء أكانت ممثلة بجيش العشائر أو سواه – هو رهان خاسر، للأسباب الآتية:
1 – تموضع ثلاث قوى عسكرية في المنطقة (أميركا وحليفتها قسد – إيران – نظام الأسد) لا يتيح لأي قوة عسكرية جديدة أي هامش من الاستقلالية، فضلاً عن التفاوت في موازين القوى بين هذه القوة الجديدة والقوى الدولية الأخرى. بل ستضطر تلك القوة الجديدة إلى أن تكون امتداداً لأحد الأطراف – كما حال جيش العشائر – وهذا ما يفقدها مشروعيتها الشعبية والثورية.
2 – غالباً ما يكون أي كيان عسكري ذي حاضنة قبلية محكوماً برموزه العشائرية التي لا تستطيع الخروج عن إرادات الأطراف الدولية الموجودة في تلك المنطقة. فزعماء العشائر، حتى ضمن العشيرة الواحدة، يتوزع ولاؤهم وفقاً للطرف الدولي المسيطر على الجغرافيا.
3 – لعل أي مواجهة عسكرية بين قوات قسد وأي طرف عشائري آخر، فإن ضحايا تلك المواجهة هم سوريون من أبناء تلك المنطقة، بل تلك القبائل ذاتها. بل ربما من غير المستغرب أن يكون عددٌ من أبناء القبيلة الواحدة يقاتل في صفوف قسد، بينما يقاتل عدد آخر في جيش العشائر، ولعل هذا الأمر هو من أشد طرق الاستنزاف للدم السوري.
يبقى القول: إن المطالب الشعبية لأهالي دير الزور، كما مطالب جميع السوريين، مطالب عادلة ومحقة وفي غاية المشروعية، والمجاهرة بتلك المطالب هي مسعى نضالي ثوري. ولعل الحرص على هذا المسعى يتجسّد في مسعيين اثنين مبدئياً: أولاهما الابتعاد عن العباءات العسكرية التي لا تتردد بالارتهان والتبعية، وبالتالي المتاجرة والاستثمار بمطالب وحقوق المواطنين، وثانيهما العمل على تأسيس إطار عمل شعبي يعتمد على الحراك السلمي، ومن ثم السعي لتأطير هذا الحراك تنظيمياً وسياسياً. ولا أعتقد أن هذا المسعى سيؤدي إلى إضعاف شوكة الحراك، بل سيزيده حصانة ومنعة، لظني بأن الوصول إلى هكذا حالة ربما يجعل منها موجة أخرى من الانتفاضات السورية التي تشاطر نظيراتها في السويداء والشمال السوري الأهداف والتوجهات معاً.