عصام شعبان
أعلنت أديس أبابا، في بياناتٍ رسميةٍ وتصريحاتِ مسؤوليها، مخاوفها من وجود قوّات عسكرية مصرية في الصومال، بعد الإعلان عن وصول طائرتَي نقلٍ إلى مطار مقديشو الثلاثاء الماضي، على متنهما جنودٌ وإمداداتٌ حربيةٌ.
جاء هذا التحرّك متسارعاً بعد أسبوعين من زيارة الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، القاهرة في 14 من الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، وهي الثالثة في عامَين، وخلالها وقّع بروتوكولَ تعاونٍ عسكريٍّ، وكرّر نظيره المصري عبد الفتّاح السيسي تأكيد دعم سيادة الصومال ووحدة أراضيه، في مواجهة تحرّكات إثيوبية، منها عقد أديس أبابا (يناير/ كانون الثاني 2024)، اتّفاقاً مع إقليم أرض الصومال لاستئجار 20 كيلومتراً من الأراضي في خليج عدن 50 عاماً، بهدف إيجاد منفذٍ بحريٍّ، في مُقابل منح الإقليم حصّةَ من خطوط الطيران الإثيوبي، واعتراف أديس أبابا باستقلال الإقليم عن حكومة الصومال الفيدرالية، التي قدّمت شكوى إلى الأمم المتّحدة (يونيو/ حزيران 2024)، ضدّ الاتفاق، بجانب توغّل قوّات إثيوبية في مناطقَ حدوديةٍ، وهو التجاوز المُكرّر من أديس أبابا ضدّ جيرانها، الصومال وإريتريا والسودان، وتستخدمه أحياناً لتنفيذ مصالحها، بينما تُلوّح بالحوار والوساطة أداةً تتكامل مع الضغوط وحشد قواتها عند حدود جيرانها. ومثال ذلك، بعد التحرّك المصري في الصومال، أعلنت إثيوبيا استعدادها للحوار مع الصومال، وقبل أن تتوتّر علاقتها مع الحكومة المركزية في مقديشو، عرضت الوساطة بشأن إقليم أرض الصومال، الذي أعلن انفصالَه من دون اعتراف دولي منذ 1991، ولم تتعاون معه اقتصادياً بوصفه دولةً سوى إثيوبيا والإمارات، طمعاً في سواحله.
وجاء التحرّك غير الاعتيادي للقاهرة بنقل جنود إلى الصومال بعد غياب ميداني طال عقوداً، ضمن سياقات ثلاثة: استمرار أزمة سدّ النهضة، الذي دخل مرحلة التشغيل بعد اكتمال بنائه من دون اتفاق بين إثيوبيا ودولتَي المصبّ، وكذلك عرض القاهرة وجيبوتي على الاتحاد الأفريقي المشاركة في قوّات حفظ السلام في الصومال، وملء فراغ يُهدّد أمنَ المعابرَ البحريةِ واستقرار القرن الأفريقي، الذي يحظى باهتمام قويّ من دول غربية ذات ثقلٍ اقتصادي، ويشهد بجانب عودة تهديد القرصنة في سواحل الصومال، توسّعَ أنشطة الجماعات الإرهابية، وتصاعد المُهدّدات لحركة التجارة الدولية، كما جاء تحرّك القاهرة في الصومال ليقطع الطريق على إثيوبيا في بناء قاعدة عسكرية في خليج عدن، والذى إن حدث يمثّل عاملَ ضغط على القاهرة، ويزيد احتمالات التوتّر في القرن الأفريقي.
في ما يتعلّق بسدّ النهضة، أُعلِن الملء الخامس لبحيرة السدّ، وانتُقِل بذلك إلى مرحلة التشغيل بعد اكتماله بنسبة 95% في نهاية أغسطس. ومنذ توقيع اتّفاق المبادئ في الخرطوم (مارس/ آذار 2015)، بين إثيوبيا ومصر والسودان، لم يحقّق التفاوضُ نتيجته في التوصّل إلى اتّفاق يحفظ حقوق مصر المائية، ما يعني فشل الطريق الدبلوماسي من دون إسناد من عوامل قوّة. لذا، وجود مصر في الصومال بهذه الكثافة، مع تعميق علاقاتها بدول القرن الأفريقي مهمّ، وأداة ضغط على إثيوبيا لعقد اتّفاق مُلزِمٍ وليس الدوران في جولات تفاوض تمتدّ عقدًا آخر، وتدّعي خلالها إثيوبيا حسن النيّات. كما يتكامل الوجود المصري في الصومال مع تعميق العلاقة مع دول حوض النيل بما يحدّ من نشاط أديس أبابا لتشكيل تحالفات ضدّ القاهرة تؤثّر في حصّتها من مياه النيل، وسيتكامل ذلك مع خطوات تالية للقاهرة في بحثها حلّ أزمة السدّ، كما إعادة مخاطبة الأطراف الدولية، وضمنه إرسال وزير الخارجية بدر عبد العاطي خطاباً إلى مجلس الأمن، مطلع الشهر الجاري (سبتمبر/ أيلول)، يرفض فيه تخزين إثيوبيا حصّة مصر المائية خلف بحيرة السدّ، مع استمرار نهجها في التهرّب من إقرار اتّفاقٍ بشأن التشغيل، بما يعني انتهاء مسارات التفاوض من دون حلّ، وأنّ مصر تراقب، وستتّخذ تدابيرَ بما يحفظ حقوقها.
اقتناع مصري بأنّ أزمة سدّ النهضة استنفدت إمكانيات حلّها دبلوماسياً بالطرق ذاتها المُجرّبة سابقاً
ثانياً، جاء دخولُ قوّاتٍ مصريةٍ بأعدادٍ كبيرةٍ نسبياً، تقدّر بعشرة آلاف جندي، ضمن مشاركتها في دعم مهام قوّات حفظ السلام في الصومال التابعة للاتّحاد الأفريقي والمدعومة أممياً. وقد واجهت هذه القوات صعوباتٍ، منها هجمات حركة الشباب الإسلامي، ونقصٍ في تمويل يُغطّي تكاليف عملها الطويل منذ 2007، ما ساهم في وضع خطّة انسحابها تدريجياً، ومعها تدخّلت القاهرة وجيبوتي لسدّ هذا الفراغ، ومساعدة الصومال في مواجهة مخاطرَ أمنيةٍ، منها أنشطة “الشباب”، التي تعاونت مع تنظيم القاعدة منذ ما يقارب عقدَين، إلى جانب جيوب لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
ثالثاً، تقدّم القاهرة نفسها قوّةً تمتلك خبراتٍ قتاليةً وقدرةً على التدريب وجمع المعلومات، وبهذا تكون موجودة بشكل رسمي في الصومال مستندةً إلى اتّفاق التعاون ومواجهة مخاطر أمنية في القرن الأفريقي، وهو هدف محلّ اتفاق واسع يتزامن مع طلب دولي بتأمين المسارات البحرية والسفن التجارية وحمايتها من القرصنة، التي عادت أنشطتها مجدّداً إلى الصومال. وبوجودها في الصومال تعزّز مصرُ مكانتها الدولية، وتبرز قوّتها العسكرية، وتلوّح لإثيوبيا بإمكانية تحريك قواتها في دولٍ أفريقيةٍ واستخدام خيار القوّة، وتقطع عليها الطريق لإقامة قاعدةٍ عسكريةٍ في ساحل عدن، التي تضر أيضاً بمصالح جيبوتي اقتصادياً.
ورغم استناد مصر إلى عوامل عدّة في خطوتها المحسوبة، إلّا أنّ إثيوبيا تتّهمها بتهديد الأمن والاستقرار وتصفها عدوّةَ السلام، وتكرّر مزاعم عن رغبتها في الهيمنة على القارّة، وتعتبر خطوةَ وصولها إلى الصومال تجاوزاً واعتداءً. بينما تقدّم أديس أبابا نفسها بوابةً للقارّة وللقرن الأفريقي بشكل خاص، وتشترط على الصومال ألّا تجري علاقات تعاون تزعزع الاستقرار، وكذلك تطالب الاتحاد الأفريقي بألّا يقبل مشاركةَ دولٍ في حفظ السلام تزيد الصراع في القرن الأفريقي. وميدانياً، تنشر قواتها في حدود الصومال، كما تعيّن سفيراً جديداً في إقليم أرض الصومال، وتتولّى الحديث باسمه، وتصدر بياناتٍ تنشرها وسائلُ إعلامها. بجانب هذه الضغوط، تدعو على لسان وزير خارجيتها، إلى التفاوض مع مقديشو، وتطرح خيارَ الحلول السلمية للقضايا الخلافية، وهي التي لم تستجب لجهود الوساطة التركية بشأن الخلافات مع الصومال منذ اتفاقها مع إقليم أرض الصومال، ولم تستمع لنداءات دول الجوار وما طرحته من حلول، بما في ذلك عرض جيبوتي تسهيل وصولها إلى منفذ بحري.
تُقدّم مصر نفسها في التعاون مع الصومال نموذجاً في محاربة الإرهاب بعد تجربتها الطويلة مع الجماعات الإسلامية، ويحمل التلاقي دعماً وإسناداً دبلوماسياً بين البلدَين
وتبدو تحرّكات القاهرة غير المسبوقة محسوبةً أيضاً، ولها أغراضٌ متعدّدة، ويساهم في سريانها اقتناع مصري بأنّ أزمة سدّ النهضة استنفدت إمكانات حلّها دبلوماسياً بالطرق المُجرّبة سابقاً. كما تستثمر القاهرة علاقاتها مع واشنطن ودول الاتّحاد الأوروبي في لعب دور لمواجهة حالة عدم الاستقرار في القرن الأفريقي، وبينها حالة الصومال، التي تُعدّ دولةً هشّةً نتاج مشكلات منذ إعلان الاستقلال عام 1960، وصولاً إلى تباعد إقليمها عن الحكومة المركزية، وتداعيات الحرب الأهلية في التسعينيّات، وأخيراً، ارتفاع وتيرة الأنشطة الإرهابية ضدّ مؤسّسات حكومية واستهداف المدنيين (في مقاهي وشواطئ وفنادق)، سواء في العاصمة أو في مناطق في جنوب ووسط البلاد، التي تملك فيها “الشباب” نفوذاً كبيراً. وتُعدّ استجابة القاهرة لدعم جهود استعادة الاستقرار في الصومال ردّاً على مخاطبة مقديشو لشركائها الدوليين والإقليميين. ويبدو أنّ بين تركيا ومصر، وكلتاهما وقّعتا اتفاقات تعاون دفاعي واقتصادي قوّتَين داعمتَين للصومال، مستوى تفاهم، وتساهمان في تقديم الدعم والتدريب للقوّات الصومالية، بجانب كينيا وإريتريا وأوغندا، غير دعم الولايات المتّحدة ودولٍ أوروبية، ضمن محاولات إعادة بناء الجيش الذي تعرّض للتفكّك بعد الحرب الأهلية، مع التركيز على بناء القوات البحرية لتحقيق مستوىً من الأمن في خليج عدن وباب المندب.
وتلتقي مصالح القاهرة مع أطراف عدّة، وسيساهم الوجود المصري في جهود حفظ الاستقرار في القرن الأفريقي، ويُقلّل مساحة تدخّل واشنطن، التي نفذّت قواتها ضرباتٍ جويةً لأهداف في الصومال (أغسطس/ آب 2022)، بعدما خطّطت حركة الشباب أعمالاً عدائيةً ضدّها. وأصدرت الخزانة الأميركية في مارس/ آذار 2024 قراراً بعقوبات بحقّ جماعات داعمة للحركة، تضمّ 16 فرداً وكياناً، ينشطون في الإمارات وقبرص ومناطق في القرن الأفريقي. وبين اهتمام أميركي بالوضع المتأزّم، تعهدّت عضو الكونغرس، إلهان عمر، بحماية المصالح الصومالية من داخل النظام الأميركي، مؤكّدةً: “ما دمت في الكونغرس فإنّ الصومال لن يكون في خطر أبداً، ولن تُسرق مياهه من إثيوبيا أو من غيرها”.
كما تُقدّم مصر نفسها في التعاون مع الصومال نموذجاً في محاربة الإرهاب، بعد تجربتها الطويلة مع الجماعات الإسلامية، ويحمل التلاقي دعماً وإسناداً دبلوماسياً بين البلدَين. وإنْ اتّخذ واجهةً دفاعيةً فإنّه لا يُلغي فرصَ تعاونٍ اقتصادي، بل يُعززها. ومن المرجّح أن تتّخذ مصر خطواتٍ تاليةً بعد إطلاق خطّ طيران مباشر بين البلدَين، خاصّة في البنية التحتية والزراعة ومشروعات المياه، كما تجارب سابقة مع دولٍ أفريقية. وربّما ما جرى يسلطّ الضوء أيضاً، ويحفّز على مساندة الصومال عربياً، وهي ضمن ثلاث دول عربية في القرن الأفريقي بحاجة لمساندةٍ ولتعاونٍ يحقّق مصالحَ مشتركةً لأطرافه.
المصدر: العربي الجديد