سمير الزبن
منذ تبلور المشروع الصهيوني فكرةً في نهاية القرن التاسع عشر، شغلت فكرة القوّة قادته، بصفتها الأداة الأكثر جدوى من أجل بناء “الدولة اليهودية”، ولم تكتفِ برعاية الدولة المُستعمِرة التي جسّدتها بريطانيا في وعد بلفور (1917) هذا المشروع، ففي مدى النصف الأول من القرن العشرين، كان الشغل الشاغل للمستوطنين اليهود في فلسطين بناءَ القوّة العسكرية المناسبة من أجل تجسيد الفكرة الصهيونية واقعاً في أرض فلسطين التاريخية، ولقد لعب الدعم الاستعماري للعصابات الصهيونية دوراً حاسماً في بناء القوّة العسكرية لهذه العصابات بغرض استكمال المشروع الصهيوني، وتحوّله دولةً في الأرض.
قام بناء القوّة العسكرية الإسرائيلية أساساً على الوظيفة التي ستشغلها “الدولة اليهودية” في المنطقة، مع تراجع المدّ الاستعماري التقليدي، وترسيخ كيان “الدولة اليهودية” مشروعاً استيطانيّاً إجلائيّاً اقتلاعيّاً، لا يمكن تنفيذ سياسته سوى بتفريغ الأرض من الشعب لتحويل شعار الصهيونية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” حقيقةً واقعةً، وكان ثمنها توظيف هذه القوّة في طرد نحو 800 ألف فلسطيني من ديارهم، وبناء “الدولة اليهودية” بممتلكات الشعب الفلسطيني، الذي فُرّغ من أرضه، واستولي عليها، وعلى ممتلكاته، وعلى مصانعه ومُدنه وقُراه. هذه الولادة المُشوّهة لدولة إسرائيل، التي قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني، جعلتها دولةً غير طبيعية في المنطقة، ولدت بشكل غير طبيعي ولها وظائف غير طبيعية، ووُظّف العداءُ مع المحيط العربي من أجل تدعيم القوّة العسكرية الإسرائيلية، وبُنِيَت بوصفها “الدولة المُعسكر”، ووُسِّعت وظائفها، من إنجاز الدولة في الأرض الفلسطينية إلى قمع الدول العربية الأخرى، وجعلها التهديد الأكبر للأمن العربي، ما جعل المنطقة في حالةِ حربٍ دائمةٍ، مُستنفَرةٍ في طول الخطّ، مُستنزِفةٍ للإمكانات العربية. في الوقت الذي رعت الدولُ الكُبرى بناءَ القوّة الإسرائيلية من أجل ضرب أيّ تطوّر طبيعي في المنطقة العربية.
سلك نتنياهو سياسةً انعزاليةً خلال سنوات حكمه المتقطّعة حكمت السياسات الاسرائيلية اليمينيّة تجاه المنطقة
لم تتوقّف العدوانية الصهيونية مع بناء دولة إسرائيل في 74% من مساحة فلسطين التاريخية، رغم أنّ قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، لم يمنحها سوى 56% من مساحة فلسطين، فقد استمرّت في تدعيم قوّتها العسكرية للاستمرار في السياسة التوسّعية، فكانت حرب 1967، التي لم تستكمل إسرائيل فيها احتلالَ ما تبقّى من فلسطين التاريخية فحسب، بل احتلّت أيضاً الجولان السورية وسيناء المصرية، وذلك كلّه تحت ذريعة الحرب الوقائية مع العرب.
بعد التوسّع الإسرائيلي الكبير في 1967، أخذت إسرائيل تشعر بثقة عالية في النفس، فرسخت هذه الحرب أقدام إسرائيل في المنطقة، ولإعطائها دوراً إقليمياً أكبرَ في ردع المنطقة من جانب، وشكلّت جزءاً من المعسكر الغربي، وموقعاً متقدّماً جنوب الاتحاد السوفييتي في إطار صراع القطبَين، الذي ساد خلال الحرب الباردة. بسبب هذا، أغدقت الولايات المتّحدة عليها المساعدات بسخاء بعد 1967، وتحوّلت نوعياً عمّا كانت عليه قبل ذلك العام. وفي المستوى الداخلي الإسرائيلي، وبعد التفوّق الكبير، بدأت إسرائيل تُعيد النظر بوظيفتها، من دولةٍ محميّةٍ من الدول الغربية إلى دولةٍ تسعى إلى لعب دور إقليمي والتحوّل قوّةً إقليميةً شريكةً في المنطقة.
لقد حكم منطق القوّة السياسة الإسرائيلية خلال تاريخها، فالمؤسّسة العسكرية هي الأكثر احتراماً في إسرائيل، تزوّد النُخْبَةَ السياسية فيها بقياداتها السياسية، وأغلب قادة إسرائيل مرّوا عبر المؤسّسة العسكرية، وهي تُشكّل جزءاً من التاريخ الشخصي لغالبية الإسرائيليين. ومع أهميتها موقعَ ردعٍ في المنطقة، حافظت إسرائيل من خلال الدعم الأميركي على تفوّقها العسكري في المنطقة، لكنّها عملت، من جانب آخر، لإعادة ترتيب الوضع الداخلي الإسرائيلي، ليتوازن مع القوّة العسكرية، فكان الالتفات إلى المجتمع الداخلي لتحقيق التوازن، ولم يعد يعوّل على الاقتصاد الزراعي (كانت نسبة الصادرات الزراعية تُشكّل 70% في الخمسينيات، انخفضت إلى أقلّ من 4%).
مع التغيّرات التي أصابت العالم والمنطقة العربية في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، بدا سؤال المستقبل ضاغطاً على إسرائيل، فهناك عالم يتغيّر، وعليها التلاؤم معه، حتّى تجد موقعَ قدمٍ لها في خريطة العالم، التي أخذت في التُشكّل من جديد. وفي إطار استحقاقات ترتيبات الأوضاع الإقليمية في العالم، لم يكن للإدارة الأميركية، التي بشّرت في عهد جورج بوش (الأب) بـ”النظام العالمي الجديد”، أن يتجاوز سؤال المستقبل المنطقة، وبات من الضروري إعادة ترتيبها بعد حرب الخليج الثانية. وبذلك طرحت إدارة بوش مبادرتها في الشرق الأوسط لحلّ الصراع العربي الإسرائيلي على قاعدة “الأرض في مقابل السلام”. ولأنّ إسرائيل لا تستطيع أن تقف في مواجهة المتغيّرات الجديدة، ما كان منها إلّا أن وافقت على مؤتمر مدريد للسلام (1991)، في زمن إسحاق شامير، الأكثر تعنّتاً في تاريخ إسرائيل، فأُجبِرت على دخول عملية السلام، رغم إعلان شامير فيما بعد أنّه كان يعمل لإطالة المفاوضات عشر سنوات من دون تحقيق تقدّم. ولكن منذ انطلاق “عملية السلام” حاولت إسرائيل الإجابة عن أسئلة المستقبل. طرح شمعون بيريز مشروعه عن “الشرق الأوسط الجديد”، والذي انطلق من نظرة وردية إلى المستقبل في المنطقة، من خلال إنجاز مُصالحة تاريخية تقوم على دمج إسرائيل في المنطقة من مواقع تفوّقيّة، من خلال تعاون إقليمي سياسي واقتصادي وأمني. وقد عرض بيريز معادلته “السحرية” للنموّ المُزدهِر في الشرق الأوسط، الذي يقوم على العقل الإسرائيلي، والمال العربي في الدول الغنيّة، والعمالة العربية في الدول الفقيرة. سعى بيريز من خلال مشروعه إلى إعادة هيكلة الشرق الأوسط وفق المصالح الإسرائيلية، ببناء هرم من العلاقات تقبع إسرائيل في قمّته.
تبحث إسرائيل عن السلام مع العرب، متجاوزةً الفلسطينيين، الذين لا تريد أن تراهم لا في المفاوضات ولا في الأرض الفلسطينية
تعرّض مشروع بيريز المُفرِط في تفاؤله لسخريةٍ قاسيةٍ من خليفته في رئاسة الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي اعتبر أنّ القوّة الرادعة الإسرائيلية وحدها القادرة على فرض السلام مع العرب، الذين حسب توصيفات نتنياهو لا يفهمون سوى “سلام الردع”، وبناءً على هذه النظرة، استبدل بالمعادلة الأميركية لعملية السلام “الأرض في مقابل السلام” معادلة “الأمن في مقابل السلام”، على قاعدة أنّ إسرائيل غير مضطرّة لتقديم تنازلات جغرافية هي بحاجة إليها للدفاع عن أمنها. وبذلك سلك نتنياهو سياسةً انعزاليةً خلال سنوات حكمه المتقطّعة، حكمت السياسات الاسرائيلية اليمينيّة تجاه المنطقة. تجاوزت هذه الساسة المفاوضات، وأخذت الإجراءات الأحادية الإسرائيلية تفرض الوقائع الاستيطانية في الأرض الفلسطينية، بسياسات حصارية على الفلسطينيين، مثل السور الواقي في الضفّة الغربية، والانسحاب من غزّة ومحاصرتها، والاقتحامات العسكرية، والحروب المُتكرّرة على قطاع غزّة. وأصبحت إسرائيل تبحث عن السلام مع العرب، متجاوزةً الفلسطينيين، الذين لا تريد أن تراهم لا في المفاوضات ولا في الأرض الفلسطينية. هذه السياسات أسّست النتائج التي نراها اليوم من “طوفان الأقصى”، والحرب الإسرائيلية المدمّرة التي تلته على قطاع غزّة.