سمير الزبن
تختم حنّة أرندت مقالها “نحن اللاجئون”، الذي كتبته في أتون الحرب العالمية الثانية، بالقول: “إنّ اللاجئين، وهم مطرودون من بلد إلى آخر، إنّما يمثّلون طليعة شعوبهم، إذا ما احتفظوا بهويتهم”. منذ كتبت أرندت كلماتها، لم يتغيّر شيء في عالم اللاجئين، فقد كان المطلوب منهم أن يخرجوا من جلودهم ويغيّروا هُويَّاتهم، وأن يعلنوا حبَّهم البلاد الجديدة وانتماءهم لها حال وصولهم. وهذا ما زال مطلوباً منهم اليوم أيضاً، حتّى عندما يفعلون ذلك، تبقى الشكوك في نياتهم وانتماءاتهم السابقة الموضوعة تحت رقابة البلد الجديد.
توصيف اللاجئين طليعةً لشعوبهم، حسب أرندت، مشروط بأن يحافظوا على هُويَّاتهم، وتحقيق هذا الشرط بالغ الصعوبة، لأنّ البلدان المضيفة تطلب من كلّ لاجئ جديد أن يترك هُويَّته قبل أن يجتاز الحدود. وأن يندمج في البلد، ولا يكفي أن يعمل ويعيل نفسه ويُعلِن ولاءه وانتماءه، بل عليه أن يُغيّر هُويَّته، لأنّ الوطنيات في زمن الحرب العالمية الثانية، كما هي اليوم، لا تعترف بالآخر، سوى بوصفه خطراً على الهُويَّة الوطنية، في عالم لم يعد أحد يستطيع أن يدّعي فيه أنّه الصانع لهُويَّته وثقافته الوطنية. كما على القادمين الجدد أنّ يغيروا دمهم، ولا يكفي أن يلبسوا أقنعةَ تغيير هُويَّاتهم، فهم يخضعون يومياً لفحص دم في الانتماء الوطني الجديد، وعندما يتكلمون بلغتهم الأصلية فيما بينهم، يُعَدُّ ذلك عداءً واستهتاراً بالبلد الذي استضافهم.
لا يمكن للاجئين أن يكونوا طليعةً لشعوبهم لأنّ البلدان المضيفة تطلب من كلّ لاجئ جديد أن يترك هُويَّته قبل اجتياز الحدود
في العالم الحديث، شرط أرندت للحفاظ على الهُويَّة عند عبور الحدود يكاد يكون مستحيلاً، ففي ظلّ المدّ اليميني الشعبوي العنصري في الدول الغربية، التي يسعى اللاجئون إلى الوصول إليها، أعلنت جميع الأحزاب في هذه الدول، حتّى التي لا تنتمي إلى هذا الطيف السياسي، بما في ذلك أحزاب الاشتراكية الدولية، أنّ اللاجئين خطرٌ يُهدّد هذه البلدان، وعندما يكون هؤلاء خطراً، فإنّ حفاظهم على هُويَّتهم ليس تنوّعاً ثقافياً بالنسبة للقوى السياسية القائمة في هذه البلدان، فهذا الحفاظ يُشكّل خطراً على الثقافة الوطنية ووحدتها، التي يجب على القادمين من وراء الحدود، أن يتركوها هناك، بصرف النظر عن مستوى تكوينهم الهُويَّاتي قبل أن يأتوا لاجئين. وبالتالي، لا يُعترف بأنّ اللاجئين جاؤوا من مجتمعات وثقافات أخرى، وأنّ لديهم وعيهم الخاص في الحياة وطريقة عيشهم، وأنّهم قادرون بهذه الهُويَّة أن يعيشوا في هذه البلدان من دون أن يغيّروا جلدهم، ومن دون أن يُشكّلوا تهديداً لثقافة البلد المُضيف، ومن دون أن يتحوّلوا وطنيين في الدول الجديدة، مبالغين في وطنيَّتهم أكثر من السكّان الأصليين.
من الغريب أن تعتبر الدول المضيفة أنّ على اللاجئين أن يأتوا صفحةً بيضاءَ ممسوحةَ التاريخ السابق والهُويَّة السابقة، وأن يكتبوا في التاريخ الجديد ما يُملى عليهم، وأن يكوّنوا هُويَّاتهم الجديدة مستأصلين هُويَّاتهم السابقة. ففي البلدان الجديدة يعامل اللاجئون كأنّهم سقطوا من السماء، أو قَدِموا من الغابات، وعليهم أن يتعلّموا، ليس اللغة الجديدة فحسب، بل أيضاً كيف يعيشون الحياة، حياتهم. وإذا اعتمدوا على تجاربهم السابقة في الحياة التي عاشوها، ومارسوا ثقافتهم بما يتناسب مع هذا التاريخ، وبما لا يتعارض مع الحياة الجديدة، يقع هذا السلوك في إطار الإدانة، بوصفه ليس “موديلاً” ألمانياً أو سويدياً أو هولندياً… إلخ.
عندما آتي لاجئاً إلى هذه البلدان، وبصرف النظر عن تجربة الحياة التي راكمتُها، والمهنة التي مارستُها، وعن تكويني الثقافي والفكري كلّه، عليّ أن أتحوّل “نموذجها الوطني”. على اللاجئ أن يكون “وطنياً” في البلد المُضيف، في الوقت الذي باتت الوطنية “موديلاً” قديماً في عالم اليوم. المشكلة المُعقَّدة التي تعاني منها البلدان الأوروبية، أنّها في الوقت الذي يسود فيها العداء الشديد تجاه اللاجئين، فإنّها لا تستطيع العيش من دونهم، بحكم البنية السكّانية الهرمة، خاصّة مع بدء تقاعد مواليد عقد الستينيّات من القرن الماضي في هذه الدول، وهو جيل الطفرة السكّانية في أوروبا. ليس هناك حلّ لهذه المشكلة سوى باللاجئين، لكنّ هذه البلدان تريد هجرةً انتقائيةً، وهذا غير ممكن في المدى المنظور، أيّ أنّها تريد اللاجئين لحلّ مشكلاتها، من دون أن تحلّ مشاكلهم.
طبعاً، في البلدان الأوروبية انتهت فترة الترحيب والتسامح مع اللاجئين منذ موجة العام 2015، وتبعات هذه الموجة ما زالت قائمةً، وهناك كثير من سياسات الدول الأوروبية التي تريد التخلّص من اللاجئين القدامى، وهذا بات يستهدف حتّى اللاجئين الذين حصلوا على المواطنة في هذه البلدان، من خلال مِنَحٍ ماليّةٍ، أي شراء عودتهم وجنسياتهم بالمال على أن يعودوا إلى أوطانهم السابقة. وهذا ما دفع الحكومة السويدية اليمينية إلى تعيين مُحقِّق من أجل دراسة “عودة اللاجئ في مُقابل المال”، ولم تعجب نتائج التحقيق حزب ديمقراطيو السويد (العنصري)، لأنّها بيّنت، أنّه حتّى لو رُفِع المُقابل المالي إلى 350 ألف كرونة (ما يعادل حوالي 35 ألف دولار)، فإنّ من سيعود لن يتجاوز 700 شخص سنوياً، وهو ما جعل هذا الحزب يطالب بإعادة الدراسة.
حلّ قضيةً اللاجئين بالبدل المالي، والتعامل معهم سلعاً قابلةً للبيع والشراء ينزع عنهم الإنسانية
التعامل مع اللاجئين بهذه العدائية، والطلب منهم أن يفعلوا كلّ شيء من أجل أن يتكيفوا مع السويد، من دون أن يكون هناك أيّ مسؤوليات على السويد تجاههم، كما يطالب هذا الحزب الذي يحوز تأييد حوالي ربع السكان هناك، يعني أنّ العداء الشديد للاجئين ليس له نهاية، في المدى المنظور على الأقلّ. وليس غريباً، أن يتحمّل اللاجئون، مع سياسة هذا الحزب وأمثاله في أوروبا، بوصفهم الطرف الأضعف، المشاكل والتعقيدات كلّها التي تعيشها هذه البلدان، من الأزمة الاقتصادية، إلى زيادة الجريمة في المجتمع، وصولاً إلى استيراد العنف الأسري لهذه المجتمعات.
التعامل مع مشكلة اللاجئين بوصفها قضيةً قابلةً للحلّ بالبدل المالي، أو ببناء معتقلات لهم، كما مشروع المعتقلات البريطاني في رواندا، ومشروع المعتقلات الايطالي في ألبانيا، لا تمثل حطّاً من قدر اللاجئين ومكانتهم في البلد، والتعامل معهم بوصفهم سلعاً قابلةً للبيع والشراء فقط، بل هو نزع الإنسانية عن اللاجئين، وهو ما فتح (ويفتح) الطريق للتعامل معهم بوصفهم بشراً أقلّ قيمةً من المواطنين الأصليين، وهو ما يضع القيَم كلّها التي تدّعيها هذه الدول من حقوق الإنسان والمساواة والعدالة بوصفها منجزاً غربياً متحقّقاً موضع التساؤل الجدّي.
المصدر: العربي الجديد