مدى الفاتح
تخيّل كيف ستكون حياتك صعبة، لو كنت محاصراً وسط جيرانٍ لا يخفون عداءهم لك، ويرفضون الاعتراف بما تعتبره ملكيّة خاصة بك، لأنهم كانوا شهوداً عليك وأنت تسرق وتقتطع من أراضيهم. الطبيعي أنّك ستكون متوتّراً ومذعوراً وخائفاً من لحظة انتقام مباغت، كما أن الطبيعي أنك لن تحاول أن تُغضب أولئك الجيران، بل ستحاول كسب تعاطفهم وتحييد مشاعرهم.
ما يحدُث مع الكيان الإسرائيلي الطارئ هو العكس تماماً، فهو لم يرضَ، منذ فُرض على المنطقة، بالحدود التي منحتها له القوى الدولية التي رعته، بل ظل يحلم بالتوسّع، مستنداً إلى سند “المجتمع الدولي”، واستمرّ في ذلك حتى ابتلع الجغرافيا الفلسطينية، التي مُحيت من على الخرائط الدولية، فاسحةً المجال لدولة أمر واقع يتزايد عدد المعترفين بها.
يبدو كل شيء معكوساً ومفارقاً للضمير في القصة الفلسطينية. يتحوّل الاحتلال دولة تحظى بالدعم والاحترام، ولا يخجل الجميع من التحدّث عن حقها في الدفاع عن نفسها وعن “أراضيها”. أما فلسطين الأصل فتتحوّل إلى مجرّد كيان شبه سياسي منزوع الإرادة ولاهث وراء الاعتراف به، والحصول على أي مقعد في الصالون الأممي.
نعيش اليوم هرم المفارقات وقمّة العبث اللائق بمسرحية سريالية، حين يتحوّل سارق الأرض إلى بلطجي لا يتورّع عن بسط اعتداءاته والمضي في محاولاته للقضاء على جميع من يرى أنهم يُعيقون طموحاته أو يذكّرونه بماضيه.
على المسرح العربي، يحتفل الإسرائيليون بمرور عام على أحداث 7 أكتوبر بالطريقة التي يجيدونها، فيواصلون عمليات الإبادة الجماعية والتهجير في غزّة وعمليات القصف المركّزة في مناطق مختلفة من لبنان، بل وتمتد صواريخهم لتصل إلى حدود اليمن ولتهدّد دولة ذات ثقل إقليمي كإيران.
إذا قدم إلى عالمنا أي شخصٍ بشكل مفاجئ من زمان آخر سوف نجد صعوبة بالغة في أن نشرح له كيف يُمكن لكيان صغير المساحة وقليل السكان، مقارنة بمعظم دول الإقليم، أن يُشكّل تهديداً جادّاً للمنطقة، التي باتت تحسب له كل حساب. الصورة قاتمة، والجيوش الجرّارة تبدو عاجزةً عن إيقاف العدوان، فيما تكتفي أنظمة “شقيقة” بالعمل على ضمان ألا يصل الشر الإسرائيلي إلى حدودها، وألا تُساهم الفوضى ونذر الحرب الشاملة في زلزلة كراسي حكمها، ولو كان ثمن هذا تواطؤاً مفضوحاً وخذلاناً واضحاً.
في “هولوكوست” اليوم تتحوّل ضحية الأمس إلى مجرم لا ينتقم لما أصابه، وإنما يوجه شره إلى شعوب لم تظلمه
فيما يلوم كثيرون حركة حماس على العملية، التي قامت بها العام الماضي، والتي يرون أنها تسبّبت في إشعال المنطقة وفي مأساة راح ضحيتها عشرات آلاف من الأبرياء، يمكننا أن نرى الأمر من زاوية أخرى تتمحور حول حرب إسرائيلية إيرانية كانت تنوي تل أبيب شنها والمضي بها إلى نهاياتها، بغضّ النظر عن واقع الأحداث. كان ذلك يظهر في التهديدات الإسرائيلية الصريحة، التي سبقت كل هذه الأحداث بوقت طويل، وكانت تتحدّث عن ضرب إيران وتفكيك مشروعها النووي.
بكثير من التضخيم والمبالغة، حوّل الإسرائيليون أحداث 7 أكتوبر إلى نقطة فاصلة في تاريخ الصراع، مع ما أطلقوا عليه اسم “الإرهاب العربي”، وهم يسيرون في ذلك في مسار الولايات المتحدة التي كانت تعاملت مع هجوم “11 سبتمبر” (2001) بوصفه مبرّراً لغزو دول ولشن حرب بلا حدود ولا سقف.
باستغلال التعاطف النادر، الذي وجدته من معظم قيادات العالم، التي دانت الهجوم على “المدنيين”، مضى الصهاينة إلى القيام بخطوة أكبر لتحقيق هدف تصفية القضية الفلسطينية والقضاء، ليس فقط على جيوب المقاومة، وإنما على حاضنتها الشعبية، التي يرون أنها تشمل كلّ الشعب الفلسطيني.
وفق المنطق الصهيوني لا أحد بريء، لأنّ أي فلسطيني هو إما مقاوم وإما متعاطف مع أعمال المقاومة. يدخل في هذا النساء والأطفال، الذين لن يكونوا، في أغلب الأحيان، سوى ثمارٍ لمقاومة مستقبلية. يغضب الصهاينة من وصفهم بالنازية، لكنهم يعملون، في الوقت ذاته، على التذكير بالإرث النازي، من خلال الطريقة التي ينظرون بها إلى شعوب المنطقة. طريقة التعامل مع الفلسطينيين واللبنانيين في هذه المرحلة، التي يتساوى فيها، في نظر الإسرائيلي، المقاتلون والمدنيون والرجال والنساء والسياسيون والعسكريون، تتخذ أسلوب “الحل الأخير” الذي كان قد اتبعه المتأثرون بالأفكار الهتلرية منذ بداية الأربعينات في مواجهة اليهود.
من العبث والحماقة الطاغية محاولة القضاء على جميع الجيران خشية التهديد
ملخص فكرة “الحل الأخير” كان أن التعايش مع اليهود، وفق أي صيغة، غير ممكن، وأن الحل الوحيد هو القضاء عليهم وهي الأفكار، التي جعلت أمر إبادة اليهود مطروحاً.
نعيش اليوم رواية معكوسة تعالج موضوع “الحل الأخير” نفسه. في “هولوكوست” اليوم تتحوّل ضحية الأمس إلى مجرم لا ينتقم لما أصابه، وإنما يوجه شره إلى شعوب لم تظلمه… وهناك عدة تعقيدات تواجه الاستلهام الصهيوني لمسألة الحل الأخير، أهمها الفارق الديموغرافي والجغرافي، فمن العبث والحماقة الطاغية محاولة القضاء على جميع الجيران خشية التهديد. ويتعلق التعقيد الثاني بمسألة “التطبيع”، التي كانت دول وكيانات ومؤسسات قد استثمرت فيها بشكل كبير، وروّجتها، في فترة الهدوء النسبي، التي كانت تعيشها المنطقة قبيل “الفيضان”. تلك الدعوات، التي كانت، تحت مسمّى التعايش وتجاوز الخلافات، تدعو إلى استيعاب الجسم الإسرائيلي في نسيج المنطقة، أصبح صوتها أضعف اليوم، كما أصبح مروّجوها في وضع لا يُحسدون عليه.
حزب الله اللبناني هو الذراع الخارجية الإيرانية الأهم، ولدوره ضمن التحالف، الذي يتبنّى مقاومة الاحتلال، كان عليه ألا يقف مكتوف الأيدي أمام الجرائم الصهيونية. هنا يبرز السؤال نفسه في الحالة اللبنانية، فهل كانت عملية “البيجر” وما تلاها من استهداف لقياداتٍ كان من بينها زعيم الحزب، حسن نصر الله، مجرّد ردّ فعل على العمليات العسكرية، التي أقلقت المضاجع، وأدّت إلى تهجير سكان من البلدات الإسرائيلية التي تقع في مرمى الصواريخ، أم إنها كانت عملاً مخطّطاً له بشكل مسبق؟
المصدر: العربي الجديد