عمار ديوب
قلب العروبة مريضٌ هذه الأيام. لم تعد دمشقُ، وسوريةُ بشكل عام، موطنَ القوميةِ التي سادتْ منذ أفول الدولة العثمانية، وحتّى بداية السبعينيّات. هناك من يُشكّك في هذه الفكرة، وهذا تفكيرٌ غير سليم. بدأ انحدار هذه الفكرة مع تأسيس حافظ الأسد دولته، فأصبحتْ دولةً ديكتاتوريةً، وفكّك الشعب هياكلَ أهليةً، وبدأت الكراهية الشعبية للقومية ولفلسطين وللاشتراكية. مع تقدّم الزمن، وبحلول عام 2011، أصبح السوريون يسعون إلى التخلّص من النظام الذي أذلَّهم وأفقرهم باسم القومية وفلسطين والاشتراكية، وقد تبنَّتْ هذه الكراهية قوىً سياسيةٌ متعدّدةٌ.
منذ عام 2011، تأسّست سورية الجديدة. ومع طول أمد الثورة وتحوّلاتها، والتدخّل الخارجي، بدأ السوريون يتقبّلون أيّ قوّةٍ احتلاليةٍ للخلاص من النظام، ومن أوضاعهم الكارثية. لم تعد قضيتُهم مرتبطةً فقط بنظامٍ شموليٍّ يمارسُ النهب والفساد، بعد أن أصبح يعتمد على إيران ومليشياتها الطائفية وروسيا لدحر الشعب ومشروعه في الانتقال الديمقراطي. إذاً، منذ السبعينيّات، أُبعدَ الشعبُ عن السياسة، ولم يعد يطيقُها. دفع دخول إيران ومليشياتٍ تابعةٍ لها نحو قابليةٍ للاستعمار لدى الشعب، ونحو الاستعانة بالخارج، وكان هذا صادماً لكثيرين ومنهم كاتب هذه السطور.
نتنياهو وحكومته يهدّدون بالإبادة والحرب المستمرّة لتغيير الشرق الأوسط بأكمله، وسورية مشمولةٌ بذلك. أصبحت الدبّابات الصهيونية جاهزةً عند الحدود مع الجولان المحتلّ لدخول لبنان أولاً، ثمّ سورية لاحقاً. تكثَّفت العمليات الجوّية داخل سورية ضدّ مواقعَ إيرانيةٍ أو تابعةٍ لحزب الله. وفي لبنانَ، تُدمَّر البنية التحتية ومدن الجنوب، وينال القصف من بيروت وباقي المدن. أطلق الرئيسُ التركي أردوغان تحذيراً من إمكانية احتلال دمشق وسورية، ما يُشكّل خطراً عند الحدود التركية. هناك وقائع وتحليلات عديدة تُؤكِّد أنّ أميركا تدعم خيار الدولة الصهيونية في تغيير الشرق الأوسط والسيطرة الكاملة عليه، ما قد يُؤدّي إلى تلاقٍ مع الإدارة الذاتية الكردية في شرق سورية، وهو ما يثير مخاوفَ الرئيس التركي.
المشكلةُ أنّ السوريين، لا سيّما الخارجين عن سيطرة النظام أو في المنافي، ورغم معرفتهم هشاشة نظامهم، غير قادرين على تغييره أو على تجاوز شعور الهزيمة الذي يعيشونه، ما أدّى إلى فقدانهم الإرادة. هناك “أغلبية” تتقبّل أيَّ طريقٍ للتغيير، حتّى لو كان عبر الاحتلال الصهيوني. وبسبب انحدار الوعي السياسي، والغضب الشديد من النظام، غاب الوعيُ بحقيقة هذا الاحتلال دولةً استعماريةً، وظيفتها اجتثاث أيّ بوادر نهوض عربي، مهما كانت؛ الثورات العربية وعملية طوفان الأقصى…
ما زالت المعركة في سورية في بداياتها، ومن الخطأ القول إنّها لن تحدُث
النظامُ وروسيا وإيران، وبسبب احتمال أن تستغلَّ هيئةُ تحرير الشام، أو الفصائل الأخرى، إمكانيةَ دخول دولة الاحتلال سورية، قاموا بتحريك قوّاتهم نحو إدلب بدلاً من التركيز على الجولان. في هذا السياق، بدأت روسيا بقصف مواقعَ عسكريةٍ تابعةٍ لهيئة تحرير الشام عدّة أيام. بذلك، يُعلِن النظام بوضوحٍ أنّه لا يمانع دخول القوات الصهيونية إلى القنيطرة طالما أنّ ذلك يضمن بقاءه في السلطة، وربّما يأملُ في مساعدتها للتخلّص من الفصائل. ويبدو أنّ روسيا لا تعارض ذلك، وقد تكون هناك اتفاقاتٌ كاملةٌ مع الدولة الصهيونية، وهو ما يُعزِّز الشقاق بينها وبين إيران.
هناك من يرى أنّ النظام قد غادر محور الممانعة، وبدأ يفكّ شراكته مع حزب الله وإيران، بينما تحاول تركيا إنقاذه بالطرق كلّها، إلّا أنّ الحقيقة أنّه لم يُغادِر بشكلٍ كاملٍ، وتركيا لا تعمل على إنقاذه بشكلٍ كافٍ. لا تزال إيران تقاتل معه في الشمال وتستهدف مواقعَ للفصائل، وهي متداخلةٌ بشكلٍ كبيرٍ مع النظام، وتستطيع إيلامه بشدّةٍ، لكنّه يبقى مصدر شرعيتها في سورية. ومع ذلك، تتيح براغماتية النظام له التلّونَ كثيراً. يسعى النظام إلى الانفكاك من الضغط الإيراني، إذ تطالبه إيران بمستحقَّاتها المالية، ومليشياتها موجودة ضمنَ الفرقة الرابعة وأجهزةِ الاستخبارات والفرق العسكريةِ في مختلفِ المدنِ السوريةِ. وقد أصدر ماهر الأسد تعليماتٍ لفرقته بالابتعاد عن المليشيات الإيرانية، وهناك تقارير تفيد بأنّ فرقته صادرت مستودعاتِ أسلحةٍ لحزب الله في الزبداني والستّ زينب. هذه استجاباتٌ دقيقةٌ للضغط الصهيوني بالابتعاد الكامل عن إيران، وهي مطالبُ أميركيةٌ عربيةٌ، خاصّةً بعد انفتاحه على الدول العربية. لكن السؤال يبقى: هل ستتقبل إيران ذلك بسهولة؟ … يبدو هذا مستحيلاً، ولذلك ما زالت المعركة في سورية في بداياتها، ومن الخطأ القول إنّها لن تحدُث. فالقصف لم يتوقّف، وتكثّف أخيراً؛ دولة الاحتلال تحشد، وروسيا تقصف جواً في إدلب، بينما قواتٌ تابعةٌ لإيران تقصف بالمدفعية، والرئيس التركيّ يرفض دخول جيش الاحتلال إلى دمشق وسورية.
المقبولية الشعبية للاحتلال الصهيوني، والكلام عن المناطق تحت سيطرة النظام، تعكسُ ردَّاتَ فعلٍ وغضباً على ممارسات النظام، وليست وعياً جادّاً. هذه المشاعرُ ستختفي في اليوم التالي لسقوط النظام أو تغييره، لكنّها ستظلُّ قائمةً طالما استمرَّ النظام في السلطة.
ممارسات دولة الاحتلال في فلسطين لن تختلف في احتلالها لسورية (إن حدث) عمّا تفعله في غزّة والضفة الغربية ولبنان
يخالف كاتب هذه السطور الآراء السائدة لدى عديد من الأوساط الشعبية. إنَّ ممارسات دولة الاحتلال في فلسطين لن تختلف في احتلالها لسورية (إن حدث) عمّا تفعله في غزّة والضفة الغربية ولبنان، وستتبنّى أساليب الدمار نفسها التي شهدناها في حواضر سورية، بل قد تتجاوز ما فعله النظام سابقاً. رغم هذه الملاحظة، فإنَّ هدف دولة الاحتلال في سورية هو التخلّص من الوجود الإيراني والمليشيات المسلّحة التابعة لها، وستتابعُ بالتأكيد قيادات حزب الله الهاربة إلى سورية، ولن تتراجع عن احتلال الجولان. ومع ذلك، فإنَّ تعقيد المشهد السوري ووجود أميركا وروسيا وتركيا وإيران يزيد صعوبة احتلالها سورية. إنَّ العلاقة المتينة بين عائلة الأسد وإيران لن تتبدّد بسهولةٍ. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ النظام لم يعد يحظى بأيّ قبولٍ في سورية، حتّى من قِبَل مؤيّديه، وهو ما قد يدفع حكومة نتنياهو إلى التفكير في تغيير النظام الذي حصل على دعم غير مباشر منها منذ 2011. هل يمكن لدولة الاحتلال أن تساهم مع روسيا وأميركا في تشكيل نظامٍ جديدٍ موالٍ للدول الكبرى، يكون ضعيفاً، ويقيم سلاماً مع دولة الاحتلال؟ … هذا احتمالٌ يُعتبر ضمن سيناريوهاتٍ عديدةٍ متعلقةٍ بمستقبل الوضع السوري.
التحليل أعلاه ينطلق من أنَّ حكومة الدولة الصهيونية لن تقبل بوجود أيّ تهديدٍ محتملٍ لها في المنطقة، كما فعلت “حماس” أو حزب الله. لن تقبل بالوجود الإيرانيّ في المنطقة الذي يدعم هذه المقاومة، بل إنّها، وبعد الاتفاقات الإبراهيمية، وفي ظلِّ الصمت العربيّ حيال إبادة غزّةَ والضفة ولبنان، تجد نفسها في موقع القوّة الأكبر والمقرِّرة لشؤون المنطقة. هناك دعمٌ غربيٌّ كبيرٌ لدورها الجديد هذا، وبالتالي، في الوقت الذي تسعى فيه إلى الهيمنة، هناك مقبولية لفعلها هذا في العديد من الأوساط السورية والعربية، بهدف الخلاص من النظام وإيران، والانتقال إلى واقعٍ سوري جديد. لكنَّ هذا لن يتحقّق، وسننتقلُ من احتلالٍ إلى آخر.
المصدر: العربي الجديد