عمر المرابط
“هناك من يتحدّث كثيراً عن حرب حضارة… لست متأكّداً من أنه يمكنك الدفاع عن حضارة من خلال زرعك البربرية بنفسك”… كلمات وردت بلسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في خطابه الخميس الماضي (24 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري) ، بمناسبة انعقاد “المؤتمر الدولي لدعم الشعب اللبناني وسيادة لبنان”، في ردّه على تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي قال إن الحرب التي يخوضها جيش الاحتلال “هي قبل كلّ شيء حرب حضارة ضدّ البربرية”. وكانت قناة سي نيوز الإخبارية الفرنسية (اليمينية المُتطرّفة) قد حاورت الأربعاء الماضي (23 أكتوبر الجاري) رئيس وزراء الاحتلال، الذي كرّر أكاذيبه وترّهاته، مُبدياً خيبةَ أمله من الرئيس الفرنسي ومواقفه أخيراً، قائلاً: “تحدّثتُ مع إيمانويل ماكرون، وأحسست بإحباط شديد”، مضيفاً: “لقد دعمَنا في بداية الحرب. ولكن، شيئاً فشيئاً، لاحظت أنه بدأ بتغيير موقفه، حتى إنه اتّخذ مواقفَ تتعارض مع مصالحنا المشتركة. لقد فرض حظراً على إسرائيل، بينما لم تفرض إيران حظراً على حزب الله أو حماس”.
هي حلقة جديدة في مسلسل المناوأة السياسية القائمة منذ مدّة بين قادة دولة الاحتلال والرئيس ماكرون، إذ بدأ التناوش بين الطرفَين عندما فطن ماكرون (نادى في بداية الحرب بتآلف دولي لمحاربة حركة حماس) إلى أن نتنياهو تلاعب به كما تلاعب بسابقيه، وأدرك أن كذب هذا الأخير ومَكره وتزويره الحقائق بلغ حدّاً، لو كان له أنف مثل أنف بينوكيو لتجاوز في طوله برج إيفل، وبعدما لاحظ تمادي كيان الاحتلال في سياسته العدوانية الهمجية في غزّة، التي أتت على الأخضر واليابس، من دون مراعاة لأدنى شروط الإنسانية، ما يدفعنا إلى التساؤل: هل هو استيقاظ ضمير، أم حذاقة ونباهة متأخّرة أتتا بعد تجاوز نتنياهو الخطوط الحمراء كلّها؟ … إننا لا نتحدّث عن الخطوط الحمراء بحسب القانون الدولي أو الأعراف الدبلوماسية، فهي لا قيمة لها عند الأقوياء، وإنما تلك التي يضعها هؤلاء لحماية مصالحهم ومراكز نفوذهم. ويدخل لبنان في هذا النطاق بالنسبة إلى فرنسا، ولا تريد له المصير نفسه لغزّة.
هناك تاريخ من المناوشات الكلامية بين السياسيين الفرنسيين وساسة الاحتلال، كانت محلَّ تكتمٍّ وتستّرٍ من الطرفَين
لن نرجع إلى تاريخ المناوشات الكلامية، ولا إلى التوتّرات بين الرؤساء الفرنسيين وساسة كيان الاحتلال منذ عهد الجنرال ديغول، إذ بالرغم من أنها ليست وليدة اللحظة، فإنها كانت دائماً محلَّ تكتمٍّ وتستّرٍ من الطرفَين، بيد أن بعضها خرج إلى العلن. إمّا عنوةً، كما حصل في عهدي ديغول وجاك شيراك، وإمّا صدفةً، كما حصل في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، حينما وصف الرئيس نيكولا ساركوزي، في لقائه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، نتنياهو بالكذّاب وأنه لم يعد يطيقه، ظانّاً منه أن الميكروفون مقفل، وإمّا تسريباً كما حصل منذ أيّام مع الرئيس الحالي ماكرون بعد إفشاء حديثه الخاصّ داخل المجلس الوزاري، قال فيه: “على نتنياهو ألّا ينسى أن بلاده أُنشئت بقرار من الأمم المتحدة، وعليه ألّا يتجاهل قراراتها”. كما كان متوقَّعاً، أثارت هذه الكلمات حنق “المجلس التمثيلي للمؤسّسات اليهودية في فرنسا (CRIF)، الذي وصف رئيسه كلمات ماكرون بـ”الخطأ السياسي والتاريخي”، لكنّها أشعلت أيضاً غضب شخصيات سياسية وإعلامية، فخرجت تزمجر وتولول. منها على سبيل المثال الوزير الأول الفرنسي سابقاً، الاشتراكي مانويل فالس، الذي قال إن ماكرون يرتكب أخطاءً جسيمةً في حقّ إسرائيل، أو رئيس مجلس الشيوخ الذي أبدى دهشته من كلام الرئيس، متّهماً إياه بعدم الاطلاع على التاريخ.
أما في الجانب الإعلامي، فإن القدح والتجريح كانا سيّد الموقف، فقد وُصِف الرئيس ماكرون مراراً وتكراراً بالجهل وعدم معرفة التاريخ، بل إن المدير السابق لصحيفة شارلي إيبدو، فيليب فال، قال إنه للمرّة الأولى في حياته “يشعر بالخجل من أنه فرنسي”. أمّا مجلة ماريان، فقالت إن الرئيس ماكرون خرّيج المدرسة الوطنية للإدارة (ENA)، “تميّز” بقتل هذه المدرسة مرّتين، أولاً عندما استبدل بها المعهد الوطني للخدمة العامّة، وثانياً عندما قبر سُمعتها وبيّن سوء ثقافة وكفاءة خرّيجيها. أمّا مجلة Challenges فعنونت “إسرائيل… لماذا لا يفهم ماكرون أيّ شيء”… وهكذا دواليك.
الحملة الممنهجة على ماكرون دفعته، وهو الرجل العنيد جدّاً، إلى تصفية حساباته علناً،
الحملة الممنهجة على ماكرون دفعته، وهو الرجل العنيد جدّاً، إلى تصفية حساباته علناً، فقد استغلّ مؤتمراً صحافياً في بروكسل (17 أكتوبر الحالي) للتنديد بـ”انعدام المهنية” لدى الوزراء والصحافيين، كما دفعته إلى البحث عمّن سرّب كلامه، فبحث حتى عثر على الجاسوس الذي أفشى كلامه، والغريب أن يكون الجاسوس (بل الجاسوسة) من حزب ماكرون نفسه، ويبدو أن رئيس الجمهورية مقتنع بأن التسريب جاء من وزيرة التربية والتعليم، آن جينيت، المقرّبة من الوزير الأول سابقاً غابرييل أتال.
عند كتابة هذه السطور، لم يكن الجدل قد انتهى، فتصريح ماكرون المذكور آنفاً زاد من غيظ المجلس التمثيلي للمؤسّسات اليهودية، وبلغ حدّ إصداره بياناً تنديدياً يدين فيه كلام ماكرون ومواقفه، قائلاً إنه لم يحدث قطّ في التاريخ أن اتهمت ديمقراطيةٌ ديمقراطيةً أخرى بـ “زرع البربرية”. وللقصّة ما بعدها، خصوصاً أن الرئيس يصرّ على موقفه من وجوب حظر الأسلحة على إسرائيل، كذلك فإن رفضه لحضور الشركات العسكرية الإسرائيلية في قمة يورونافال (أكبر معرض عسكري بحري في العالم) دفع دولة الاحتلال إلى اتهامه بـ”إلحاق العار” بفرنسا، كما أعلن وزير خارجيتها متابعته قضائياً.
منذ أكثر من عشرين سنة، نشر الأكاديمي والخبير في العلاقات الدولية، باسكال بونيفاس، كتاباً بعنوان “هل يُسمح بانتقاد إسرائيل”، خلص فيه إلى أن انتقاد هذا الكيان يجلب على صاحبه السخط والنقمة والاتهامات بمعاداة السامية، ثمّ الثأر والانتقام، وهذا ما حصل لكثيرين، وقد يحصل لأيّ شخص، ولو كان رئيساً.
المصدر: العربي الجديد