جمال الشوفي
لم يمضِ وقت طويل بعد جملة المقترحات والاجتهادات المتعددة والمتنوعة التي تتناول طرق الحل السورية، سواء بعمومها وفق الحل الدولي المقترح والمصاب بالعطالة والاستعصاء، أو بتخصيص مستقبل مناطقها واحدة تلو الأخرى. فمنذ العام 2018 وسيل المبادرات السورية لم يتوقف عند حد معين، بعضها يحاول تدارك الوضع الكارثي الذي حل بسوريا والسوريين، وبعضها يمارس الاستثمار السياسي في مجريات الواقع المشتت والكارثي تحت عنوان الواقعية السياسية! وهنا، تبرز بين الفينة والأخرى مسارات واجتهادات تتحدث مرة عن سوريا اللامركزية أو سوريا الاتحادية أو الفيدرالية أو عن سوريا المركزية باستبدال سلطتها القائمة بسلطة بديلة، كيف ومتى ولم يحدث التغيير السياسي بعد؟ وسيل الاجتهاد لا يتوقف! فإن كان حسم موقعي الشمال الشرقي والشمال الغربي واضحاً نسبياً خلال هذه السنوات بقوى أمر الواقع فيها، والساحل السوري من الصعوبة بمكان الاقتراب منه لهيمنة النظام المركزة بقبضة حديدية فيه ومحمي بالقوة الروسية العسكرية، فإن المنطقة الجنوبية كانت ولا تزال المنطقة التي لم تحسم فيها بعد المعادلة.
اليوم تعود ذات الأسئلة سواء بعموم الحالة السورية ومآلاتها، أو سؤال المناطق السورية ومصيرها وخاصة الجنوبية، وكأننا أمام إحدى إجابتين وحسب: إما استمرار العطالة وبقاء النظام بجريمته في حكم سوريا، أو مشاريع تقسيم مناطقية والحبل على الجرار! فيما قلما يتم النظر إلى مجريات الحدث السوري من بوابة الإمكانيات والأهداف والواجب والقدرة. أي هل المنطقة الجنوبية وسكانها من السويداء ودرعا والقنيطرة متلقون فقط لهذه المشاريع والمقترحات؟ أم أن لديهم رأي آخر وطريق مختلف لا يحبذ أصحاب دعاة الواقعية السياسية سماعه!
اليوم تكثر الأسئلة المتعلقة بمصير الجنوب السوري بإلحاح كبير، خاصة مع التغيرات التي تطول المنطقة برمتها مع توسع الحرب الإسرائيلية في الجنوب اللبناني، والمضي في تدمير كامل مقدرات حزب الله العسكرية ووجوده السياسي. هذا وثمة إشارات كبيرة بإمكانية تمددها إلى الجنوب السوري لملاحقة بقايا فلول حزب الله والميليشيات الإيرانية الأخرى في المنطقة. ما أعاد إلى الأذهان فكرة خروج النظام من المنطقة وحدوث الفراغ السياسي والعسكري الذي سيحدثه، وبالضرورة سؤال ما هي البدائل؟ ويبدو أن استسهال الفرضيات والتعجل بالقراءات السياسية يدغدغ المشاعر والأفكار السياسية بإمكانية قيام إدارة ذاتية جنوبية عنوانها الخلاص بعد سلسلة الخيبات السورية التي تعطلت من خلالها مسارات الحل السوري جميعها! فيما أن هذه الاستباقات لا تريد الإجابة على الأسئلة السياسية الواجبة والدخول في متنها وتحليلها موضوعياً ووضع حدودها وإمكانياتها، أضف لقرارات أبنائها، أبناء الجنوب عموماً. والسؤال المطروح اليوم: هل ستصل الحملة الإسرائيلية العسكرية فعلياً إلى الجنوب السوري؟ وهل ستعمل على فصله عن سوريا؟ وما هو الموقف الروسي والأميركي من هذا؟ وإذ تبدو هذه الأسئلة محددة بقراءة خرائط المصالح الدولية ومحاورها الجيوبوليتيكية القائمة في سوريا منذ 2015، لكن المثير للاستغراب بدء الحديث الفعلي عن مشروع سياسي يتعلق بكامل الجنوب السوري وعن إدارة ذاتية فيه، من دون مستوى المشروع الوطني السوري العام وإحداث التغيير السياسي في المركز! فهل سيقف النظام وإيران متفرجين أمام هذا المشهد المفترض؟ وهل أبناء الجنوب يرضون بأية وجبة سياسية على مقاس صانعيها؟
اليوم تكثر الأسئلة المتعلقة بمصير الجنوب السوري بإلحاح كبير، خاصة مع التغيرات التي تطول المنطقة برمتها مع توسع الحرب الإسرائيلية في الجنوب اللبناني، والمضي في تدمير كامل مقدرات حزب الله العسكرية ووجوده السياسي.
في مراجعة أحداث الجنوب السوري، فمنذ عام 2013 حتى العام 2018 كانت المنطقة بمعظمها في درعا والقنيطرة تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية مع جيب محدود في وادي اليرموك لما تضاربت الأخبار عنه بمبايعة “داعش” من عدمها، مع بقاء السويداء منطقة محايدة لا تخضع لأي نوع من الهيمنة العسكرية سوى الحفاظ على معادلة توازن القوة بين قواها المحلية وسلطة النظام. بعد اتفاق عمان الثلاثي 2017 (الروسي- الأميركي- الأردني) ومع استعادة النظام سيطرته على المنطقة في درعا والقنيطرة بدعم روسي في العام 2018، على أن تتعهد روسيا بإبعاد الميليشيات الأجنبية (حزب الله والميليشيات الإيرانية) وما رافقها من المصالحات المزعومة والتي على أثرها تشكل الفيلق الخامس التابع للقيادة الروسية مباشرة ومركزه مدينة بصرى الشام والقرى الشرقية من درعا، فيما أن كل من رفض المصالحات حينها تم تهجيره إلى الشمال السوري. ومنذ ذلك الوقت ورغم هدوء المنطقة نسبياً، لكن سلسلة الاغتيالات الفردية قائمة فيها، مع محاولات متعددة لفرض هيمنة مطلقة للنظام والميليشيات التابعة له وتصاب بالفشل دوماً. وسبب ذلك التدخل الروسي في التهدئة مع رفض الأهالي لخروقات النظام وميليشياته كما حدث في أحداث درعا البلد قبل عامين. مقابل هذا بقيت السويداء تشكل المعادلة الخارجة عن أية توصيفات للواقع السوري، ومنذ ما يزيد عن العام وشهرين تجتاحها موجة ثورية ثانية تطالب برحيل النظام والتغيير السياسي العام بمرجعية القرارات الدولية التي تقر بالحل السياسي السوري الجذري، وهذا على ما يبدو إلى اليوم لا يدخل في حسابات أصحاب الواقعية السياسية!
يجب على السوريين بوطنييهم وسياسييهم إعادة طرح أجوبة سياسية عاجلة تحتكم لمعيار وجودهم التاريخي والسياسي، وقدرتهم على تثبيت مقومات المشروع الوطني عبر الانفتاح والحوار والتجهيز لمؤتمر وطني سوري يعبر عن الكلية السورية من دون اجتزاء أو إقصاء كما يحدث بين الحين والآخر، عنوانه العام دولة لكل السوريين كما أرادتها الثورة
تفيد المعطيات والمؤشرات الجيوعسكرية إلى اليوم أن روسيا لا تريد الدخول في امتحان عسكري جديد في سوريا، ومعطياتها العامة تشير لتضارب مصالحها مع إيران خاصة في المنطقة الجنوبية، فيما أن النظام السوري يتمترس خلف صمته المطلق حول مجريات المنطقة إقليمياً، مضحياً بحلفائه جميعاً مقابل البقاء في السلطة. فيما أن المنطقة الجنوبية إلى اليوم، وخاصة حراك السويداء السلمي، يؤكد على ضرورة التغيير السياسي للنظام القائم، أصل الكوارث السورية، وأنها ليست مع المشاريع الإقليمية الخارجية سواء الإيرانية أو الإسرائيلية. هذا عدا أن المنطقة ومن درعا، انطلقت شرارة الثورة السورية عام 2011، وتتابعها اليوم السويداء بموجة ثورية ثانية منذ ما يزيد عن عام وثلاثة أشهر مستعيدة ثوابت الثورة الأولى: الشعب السوري واحد ودولة لكل السوريين. وفي جميع معطيات المنطقة الجنوبية، تؤكد على تمسكها بالسلمية كأساس للحل السياسي السوري، والتوافق الوطني العام على خطواته الممكنة عبر الحوار السوري البناء، وعلى ضرورة الخروج من خنادق الأزمة السورية بتشتت محاورها المتعددة وتنافرها القائم. وتؤكد على انفتاحها على كل السوريين من جميع الجهات والمكونات السياسية والأهلية تحت عنوان المصلحة الوطنية، وهذا الحوار لابد منه وإن كان مساره شاقا وطويلا. فالمستفيد الوحيد من هذا التحاجز السوري إلى اليوم هو النظام بسلطته القائمة.
قد تقف المنطقة الجنوبية أمام إجابات جيوعسكرية محتملة كما كانت كامل سوريا أمام إجابات جيوسياسية عميقة طوال السنوات الفائتة، وقد تواجه استحقاقات مؤلمة مرة أخرى. لكن ما يجب على السوريين بوطنييهم وسياسييهم إعادة طرح أجوبة سياسية عاجلة تحتكم لمعيار وجودهم التاريخي والسياسي، وقدرتهم على تثبيت مقومات المشروع الوطني عبر الانفتاح والحوار والتجهيز لمؤتمر وطني سوري يعبر عن الكلية السورية من دون اجتزاء أو إقصاء كما يحدث بين الحين والآخر، عنوانه العام دولة لكل السوريين كما أرادتها الثورة منذ شرارتها الأولى ولم تبصر النور بعد.. وهذا أضعف الإيمان والممكن الوحيد لخلاص السوريين بدلاً من سيل الاجتهادات والمشاريع دون الوطنية واستمرار مقتلتها والمستثمرين بها، وإلا سنقول كما قالت العرب مراراً: أفي كل صيف سنضيع اللبن؟ عجبي!
المصدر: تلفزيون سوريا