برهان غليون
تناول ماجد كيالي، في مقال نشره في صحيفة النهار اللبنانية الأسبوع الماضي، مقالتي “إسرائيل والمسألة الشرقية الجديدة” (العربي الجديد، 17/10/2024)، التي أشرتُ فيها إلى أنه، بعكس ما درجنا على ترداده عقوداً طويلةً في الخطاب العربي، ليست المشكلة المركزية التي تواجه دول المنطقة (عربية وغير عربية)، مسألة فلسطين، بما تعنيه من استعادة شعب طُرِد من أرضه حقوقَه السياسية الطبيعية المكرّسة في قرارات دولية، وإنّما المسألة الإسرائيلية. وأعني بها وجود دولة تعمل خارج إطار أيّ قانون سياسي أو أخلاقي، مدجّجة بالسلاح، ومدعومة من التكتّل الغربي المتربّع على قمّة هرم النظام الدولي، الذي ينظر إلى الأقطار العربية غنيمةَ حربٍ، ويتصرّف معها مناطقَ نفوذٍ مكرّسةً وزبائنَ مضمونةً، وعلى المجتمعات العربية أن تتعايش مع هذا الواقع وتنشئ دولاً “سيّدة” تحظى بولاء شعوبها، وتنال احترام دول العالم الأخرى لها، فتتعامل معها دولاً حقيقية.
أولاً، عن طبيعة الحرب الدائمة في المشرق وأسبابها: نحن والغرب وإسرائيل: … فُرِضت إسرائيل ملجأً لليهود، وسرعان ما تطوّرت دولةً يهوديةً إثنيةً وأبرتهايد يطمح إلى فرض أولوية أجندته الأمنية في عموم دول المنطقة، ولا تزال تصرّ على أن تبقى دولةً استثنائيةً لا يخضع سلوكها إلا لإرادة حكوماتها، وعلى رفض القرارات الدولية، التي تعتبرها تدخّلاً في شؤونها، بما في ذلك عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، ولا تتردّد في إلحاق أراضي الغير بالقوة، وتستمر في طرد السكّان لبناء المستعمرات اليهودية، وفي ممارسة سياسات الانتقام والعقاب الجماعي، وأخيراً الإبادة الجماعية، كما حصل (ولا يزال) في غزّة، وجنوب لبنان أيضاً. فهي تتصرّف على أنها التجسيد الحيّ لضحايا النازية، وأنها مهما فعلت من أفعال شائنة وارتكبت من مذابح، فلن تعوّض شيئاً عمّا ارتكبه العالم في حقّ اليهود من جرائم العنف والاضطهاد والكراهية عبر التاريخ.
بين الحروب الانتحارية والتفريط بالسيادة والمصالح الوطنية، هناك خيار السلام القائم على مبادئ وقيم وتعهّدات
وباسم هذه المذابح والعداء المتأصّل في العالم ضدّ السامية، تعامل إسرائيل نفسها بوصفها دولةً غير الدول، وتفرض على العالم أيضاً أنْ ينظر إليها (ويتعامل معها) على أنها فوق القانون، وخارج نطاق أيّ مساءلة مهما كانت طبيعة أفعالها. والقانون الوحيد الذي تلتزم به لتأكيد وجودها ومصالحها، التي تعرفها وحدها، هو القوة. ومن أجل ذلك، لم تتوقّف عن تطوير صناعة السلاح، فأصبحت أحد تجّاره العالميين، ولم تتوقّف عن العمل للتفوق العسكري المطلق على جيرانها، منفردين أو مجتمعين، يساعدها في ذلك امتلاك السلاح النووي، والدعم التلقائي وغير المشروط من التحالف الغربي في أيّ حرب أو نزاع مع جيرانها، ومن الطبيعي في هذه الشروط الاستثنائية أن تستهين تلّ أبيب بالمنظّمات الدولية وقراراتها، وأن لا ترى لها مصلحة في البحث عن أيّ تسوية سياسية أو إقليمية، وأن تتضخّم أطماعها، ويزداد صلفها في التعامل مع جيرانها مع تنامي قدرتها على إخضاعهم وابتزازهم.
وبينما ضاعف هذا الوضع الاستثنائي من أهميتها ووزنها في نظر دول العالم الرئيسة المتنافسة على مصالح استراتيجية واقتصادية كُبرى في المنطقة، وزادت العوائد الاستراتيجية التي تجنيها تلّ أبيب منه، أصبح احتواء تفوق إسرائيل ودرء مخاطر سياساتها العدوانية الهمّ الأكبر لحكومات المنطقة، وحوّل حياة شعوبها، منذ ثلاثة أرباع القرن، جحيماً يستعر بالانقسامات والنزاعات والحروب والهزائم والانقلابات العسكرية وحروب العصابات والمليشيات والانتفاضات وصراع المافيات، ما أرهق مجتمعاتها واستنزف جهودها وقضى على مستقبل القسم الأكبر من أبنائها.
من هنا، وبخلاف ما هو سائد في الخطاب العربي منذ عقود، ليست القضية الفلسطينية سوى أحد عوارض الأزمة الجيوسياسية الأكبر، التي تتخبطّ فيها المنطقة منذ عقود من دون أفق للحلّ، نجمت عن إنشاء إسرائيل من الدول الاستعمارية الأوروبية، ثمّ تبنيها من الولايات المتحدة، الدولة الأعظم في العالم، “قلعةً متقدّمة للغرب، أو للحضارة ضدّ البربرية”، كما أرادت الحركة الصهيونية، وقاعدة ارتكاز وذراعاً لتطويع دول المنطقة وإخضاعها لأجندة السيطرة الغربية، الإقليمية والعالمية.
وبخلاف ادّعاءات العواصم الغربية، ما كان لهذه الأزمة أن تحصل وتستمرّ لو اقتصر هدف الغرب على إقامة وطن قومي لليهود في جزء من فلسطين، كما نصّ عليه وعد بلفور وقرار التقسيم الأممي. بل إن هذا الحلّ لا يزال ممكناً في أيّ وقت، لو أرادت واشنطن، والغرب عموماً، أن تعفي إسرائيل من وظيفتها الجيوستراتيجية، وتسحب منها وكالة ابتزاز الدول المشرقية، والتهديد الدائم بحروب الإبادة الجماعية. ولا يحتاج ذلك إلّا إلى أن تأخذ واشنطن بيد إسرائيل لتحقيق حلّ الدولتين أو الدولة الواحدة الديمقراطية، وستجد جميع الحكومات العربية جاهزةً للتوقيع على السلام الدائم والمشاركة في تمويله. لكن في هذه الحالة، سيخسر الغرب وواشنطن في الدرجة الأولى قلعةً حصينةً عمل عليها طويلاً، لاستخدامها في مواجهة نزعات المنطقة وشعوبها ودولها للانعتاق، واتّباع سياسات مستقلّة، وربّما الانتقال إلى نظم ديمقراطية أو شبه ديمقراطية تعكس إرادة شعوبها. وبالتالي، فقدان السيطرة عليها وعلى مصائرها المستقبلية.
وهذا يعني أن المشكلة لا تكمن حتى في دفاع الغرب عن إسرائيل أو في حمايتها من الهجمات الفلسطينية والعربية، وإنما في عدم رغبته في التخلّي عن خدمات إسرائيل الاستراتيجية أداةً فاعلةً واستثنائيةً للضغط على دول المنطقة، والتحكّم بسياساتها، واستخدام هذه الدول ذاتها في الصراع الكبير على مركز الهيمنة الإقليمية والدولية. ولذلك، من الصحيح ما يقوله العديد من المؤرّخين اليهود الديمقراطيين المناوئين للصهيونية، من أن إسرائيل الراهنة لا تخدم اليهود، بل تستخدمهم لصالح المشاريع الغربية.
لن تخرج المنطقة من حالة الاستثناء والتنمية المعلّقة ما لم نجد حلّاً لحالة الاستثناء المفروضة على المنطقة بأكملها، حفاظاً على دولة الاستثناء الإسرائيلية
إذا تجاوزنا المسألة الفلسطينية المعلّقة، التي ستبقى معلّقةً طالما استمرّ رهان الغرب على إسرائيل لإخضاع الدول المشرقية، يطرح هذا الوضع تحدّياً مستحيل الردّ على جميع دول المنطقة، وهو استحالة الحرب والسلام معاً. ذلك أن أيّ مواجهة عسكرية مع إسرائيل تعني المواجهة مع الغرب والولايات المتحدة، وهي بالتالي انتحار. وأي سلام مستحيل أيضاً ما لم يكن استسلاماً وتسليماً بالأمر الواقع، أي بالمصالح والحقوق والسيادة والكرامة الوطنية.
هذه كانت نتائج جميع حروب العرب السابقة مع إسرائيل، النظامية منها والفدائية. ولا يحظى بالسلام إلا من يقبل الاستسلام الطوعي والتسليم بالأمر الواقع والتخلّي عن حقوقه والقبول بالعمل على الأجندة القومية الإسرائيلية، وأحياناً تحت قيادة إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة، والتعاون معهما على مكافحة من يعادي سياساتهما أو يقاومها أو يعترض عليها من أفراد وتجمّعات وأحزاب، أي على المحافظة على الأمن وحراسة حركة الاستيطان اليهودي والتعايش معها. بمعنى آخر، لا يترك هذا التحدّي الذي يستحيل على أي دولة أو سلطة أن تردّ عليه، لا يترك للضحية إلّا اختيار سلاح إعدامها؛ الانتحار أو الخيانة للمصالح الوطنية. وهذا التحدّي المستحيل هو الذي حطّم صدقية الأنظمة السياسية، وقوّض العلاقة بين حكومات المنطقة وشعوبها، بمقدار ما فرض عليها أن توظّف مواردها المحدودة في تعزيز الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، والتجسّس على الجمهور، وبناء الجيوش التي لا وظيفة لها سوى التغطية على خصاء الدولة وفراغ القوة وغياب السيادة. هنا تكمن في نظري المشكلة الأساسية التي تواجه دول المنطقة بأكملها، كما واجهت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، التي تفسّر القطيعة التي تكاد تصبح مطلقةً فيها، بين الحكّام والشعوب، وتحرم الدول الشرطَ الأول لأيّ تقدّم في تحقيق التنمية الإنسانية السياسية قبل الاقتصادية، وتدفعها إلى التراجع في المعايير الحضارية كلّها، بل إلى الدمار.
لذلك، لن تخرج المنطقة من حالة الاستثناء والتنمية المعلّقة في جميع الميادين، بما فيها الديمقراطية، ما لم نجد حلّاً لحالة الاستثناء المفروضة على المنطقة بأكملها، حفاظاً على دولة الاستثناء الإسرائيلية أو على استثناء إسرائيل من حكم القانون، التي يعزّزها تفاقم النزعة اليهودية الإثنية في إسرائيل، ما يجعل منها دولةً قبيلةً لا دولة مواطنيها من جهة، والتواطؤ الأميركي الغربي على تحويل إسرائيل عصاً غليظةً في خدمة الأجندة الغربية في الصراعات الإقليمية والعالمية من جهة ثانية.
ثانياً، هل هناك خيار للسلام فيما وراء سياسات الإذعان أو الانتحار؟ … بالنسبة إلى السؤال: هل هناك خيار ثالث إضافةً إلى الانتحار والخيانة أو الإذعان للقوة؟ … نعم، بالتأكيد. بين الحروب الانتحارية، التي لن تكون ضدّ إسرائيل وحدها، ولكن ضدّ أعظم قوة عالمية، والاستسلام للقوة أي لإرادة إسرائيل ممثّلة للغرب والولايات المتحدة خاصّة، والتفريط بالسيادة والمصالح الوطنية، وهو ما يمثّله التطبيع المجّاني الذي لن يجلب أيّ سلام، ولكنّه سيضاعف من تطرّف إسرائيل وطغيانها، ويزيد من مخاطر انفجار مجتمعاتنا تحت الضغوط المتفاقمة، وسورية الأسد خير نموذج لذلك… بينهما هناك خيار السلام، وهو بخلاف الاستسلام يقوم على مبادئ وقيم وتعهّدات. ولا يمكن إملاؤه بالقوة والإذعان، بل يتحقّق من طريق التفاوض انطلاقاً من الاعتراف بالحقوق المتساوية للأطراف، وباحترام المصالح الخاصّة بكلّ طرف، بما في ذلك مشاعر شعبيهما.
وليس لإسرائيل التي تحظى بامتيازات هائلة، نتيجة اعتراف الغرب باستثنائيتها ودعمه المطلق لها، أيّ مصلحة في فتح أي نوع من المفاوضات مع أي طرف عربي، ما دام بإمكانها إملاء إرادتها عليه. ولن نستطيع أن نغيّر من نوعية علاقتنا بإسرائيل ما لم ننجح في تغيير طبيعة علاقتنا بالدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ومعها وحدها يمكن التفاهم على حلول بنّاءة، فقد كانت السبب الرئيس لخراب الشرق الأوسط، وهي التي تملك اليوم مفتاح إنقاذه بمقدار ما أنها الشريك الأكبر والضامن الأول لوجود إسرائيل وتفوّقها العسكري والسياسي والدبلوماسي معاً. وهي وحدها التي تستطيع عقلنة إسرائيل بمقدار ما كانت سبب جنونها، إذا قرّرت مساعدتها على إعادة ترتيب وضعها في المنطقة، والانتقال من دولة إسبارطيّة استثنائية لتصبح دولةً طبيعيةً بحدود معروفة، وخيارات سلمية واضحة، والتزامات جدّية تضمن استقرار واستقلال وسيادة جميع الدول، وبسط السلام والتعايش فيما بينها.
والولايات المتحدة في مقدمة التحالف الغربي قوّة جيوسياسية عظمى، ليست صديقاً لأحد، ولا قوة منزَّهة عن المصالح والهوى. وهي لم تستثمر في إسرائيل حبّاً باليهود أو شفقةً عليهم، بل لأنها وجدت فيها القوة الأكثر طواعيّةً واستعداداً في المنطقة لإلحاق الهزيمة بالقوى العربية، التي أرادت أن تتحدّى خياراتها، وتستقلّ عنها، وتتّجه شرقاً منذ الخمسينيّات. وقد اكتشفت قوتها وفائدتها بشكل أكبر بعد حرب 1967، وفُتنت بانتصارها المذهل والسريع على الدول العربية، فتبّنتها قوة إقليمية استثنائيةً جاهزةً لمعاقبة خصومها وردع من يخرج عن طاعتها في المنطقة. وزادت أهميتها عندها بعد خسارتها إيران المَلكية، وتنامي نزعات تركيا الاستقلالية، فتبنّت من دون نقاش مشاريعها الاستيطانية وسياساتها العدوانية، التي لا يمكن إلا أن تزيدها قوة لحسابها ولحساب إسرائيل معاً.
لدى العالم اليوم، بعد حرب الإبادة في غزّة، تأكيد على مخاطر السماح لإسرائيل بتجاوز جميع المعايير القانونية والإنسانية، والاستهتار الكامل بالقرارات الدولية
وكما أن بروز قوة إسرائيل وحسن أدائها زاد من استثمار الولايات المتحدة فيها والرهان عليها في السيطرة الإقليمية، وفي الصراعات الدولية، فيما أسقط ضعف أداء الدول العربية في حروبها السابقة، وفي إدارتها الصراع حول مصالحها الوطنية، هيبتها في الغرب والشرق معاً، وقاد إلى الاستهانة بها وبسياساتها وردودها ومصالحها. فما يغيّر في مواقف الدول ونظرة بعضها إلى بعض، هو مُعامل القوة. لذلك، لن يضحّي الغرب بشوكة إسرائيل القوية وخدماتها الكُبرى لقاء أيّ وعود أو مصالح جزئية أو استثمارات اقتصادية. ولا يمكن لهذه الوعود أن تشكّل خطّةً دبلوماسيةً ولا سياسةً جِدّية.
ليس هناك سوى تكتّل الدول العربية في إطار مفاوضات جِدّية جماعية مع الولايات المتحدة والغرب، ما يمكن أن يُظهِر قوة هذه الدول الكامنة، ويحوّلها من صفر رقماً، ويجعل منها فاعلاً دبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً مُعتبَراً في الساحة الدولية، ويعوض انعدام وحدتها السياسية ودونيّتها العسكرية. وهو وحده ما يمكن أن يعيد بعض التوازن في علاقات القوة في الشرق الأوسط، ويفتح نافذةً للإطلال على أفق سلام ممكن وضروري، لإخراج شعوبه من خطر الانهيار والتدمير المتبادل، الذي أعطت حرب غزّة العام الفائت صورةً مجسّمةً ومرعبةً له. وبإصرارها على السلام العادل ورفض الاستسلام والتطبيع المجّاني، الذي مارسته حتى الآن، بإمكان المجموعة العربية أن تستعيد صدقيتها السياسية، وتحصل على تقدير الغرب، وأن تفرض عليه التعامل معها شريكاً استراتيجياً مضموناً في الصراع الدولي القائم حول المنطقة وفيها، وليس كما جرت العادة زبائنَ متفرّقين، وأحياناً طرائدَ تبحث عن حامٍ أو وليِّ أمر. وتعني الشراكة من أيّ مستوى كانت الدخول في معادلة الاحترام المتبادل والاعتراف بالندّية واعتماد الحوار والتفاوض في حلّ الخلاف في المصالح، بدلاً من الإملاء والاكراه واستخدام القوة. باختصار، هذا يعني أننا لن نستطيع أن نغير نظرة الغرب لنا، وأسلوب تعامله معنا، ما لم نغيّر نحن أنفسنا دولاً عربيةً من نوعية علاقات بعضنا ببعض، ونظرتنا لأنفسنا ولـ”أشقائنا” في المأساة.
وقد يشكّل الوضع المتفجّر الراهن، والدمار الذي حلّ بشعوب المنطقة، حافزين أكبر للعمل من أجل السلام، وللضغط على الدول الكبرى المعنية من أجل الخروج من جحيم الحرب الدائمة، بخلاف الحِقَب السابقة، التي طُرِحت فيها المبادرة العربية. كما أصبح لدى العالم اليوم، بعد حرب الإبادة في غزّة، تأكيد لا سابق له على مخاطر السماح لإسرائيل بتجاوز جميع المعايير القانونية والإنسانية، والاستهتار الكامل بالقرارات الدولية، ومهام المنظومات الإنسانية، بما فيها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
لقد أصبح من الواضح للرأي العام العالمي أن دعم حكومات الغرب غير المشروط لسياسات إسرائيل التوسّعية والعدوانية، ووقوفه الأعمى إلى جانبها، لا يمكن أن يستمرا من دون أن يعرّضا النظام العالمي للخطر، ويهدّدا بنموّ مشاعر الظلم والإحباط والتمرّد والانتقام لدى العديد من المجتمعات، التي سحقها القهر والبؤس والاضطهاد. وإذا لم يشأ الغرب العالمي أن يتكرّر ما حصل في غزّة ولبنان وسورية، وما أسفر عنه ترك القضية نهباً للاستغلال السياسي من طهران ومليشياتها، العابرة للحدود في المستقبل بشكل أكبر وأكثر دراماتيكية، فليس لديه مهرب من أن يعيد النظر باستراتيجيته الإقليمية، وأن يضيف إلى العصا الإسرائيلية الغليظة، التي يستخدمها في تعامله مع الشعوب العربية، بعض المحفزات الإيجابية، سواء في ما يخصّ مصالح الدول واحترام سيادتها أو مشاعر الشعوب ومصالحها العُليا.
وبإمكان المجموعة العربية أن تستفيد أيضاً وبشكل كبير، في إعادة طرح مبادرتها، من التعاطف الذي حظيت به القضية الفلسطينية، والتعبئة التي شهدها الرأي العام العالمي ضدّ حرب الإبادة في غزّة لمضاعفة الضغط على الولايات المتحدة، التي تكاد تنفرد مع بريطانيا وألمانيا في إطلاق يد إسرائيل في المنطقة، ولحثّها على وضع حدّ لتفاقم انتشار العنف، وتقويض سلطة القانون، والتسابق على إنتاج وسائل الدمار الشامل الذي وصل إلى حدود جنونية مع الدخول في سباق إنتاج القنابل النووية. وقد ينقلب سحر سياسة الكيل بمكيالين، وتحدّي القوانين والقواعد والمشاعر الإنسانية الدولية على أصحابه، ويغرق بالعنف أولئك الذين حوّلوه عملةً وحيدةً في التعامل في مجال العلاقات الدولية.
هذا هو الطريق الوحيد في الوقت الراهن لفتح أفق للحلّ السياسي على حساب خيار الحروب الانتحارية، سواء كانت وطنية أو بالوكالة، وخيار الاستسلام المغذّي لمشاعر الضغينة والغلّ والرغبة الدائمة في الثأر والانتقام. وبعكس الاستسلام، لا يمكن لخيار السلام أن يتحقّق إلا على أساس العدل، أي الاحترام المتبادل والمساواة والاعتراف بالحقوق المتساوية للدول والشعوب والأفراد. وقد يشكّل اللقاء المصري السعودي أخيراً، خطوةً أولى بارزةً وتأسيسيّةً في طريق إنشاء قوة دبلوماسية وسياسية عربية تعمل لصالح إحلال السلام، وإعداد المنطقة لمرحلة جديدة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأيضاً لثقافة جديدة تحلّ في محلّ ثقافة الموت والمواجهة والتمييز العنصري، والفقر والبؤس الذي دمّر معنويات القسم الأكبر من ساكنيها، وقوّض معنى المواطنة وحقوقها فيها.
ومن البديهي القول إن مثل هذا التطبيع الشامل للمنطقة، أي إخراجها من استثنائيتها، وبسط حكم القانون الدولي، ومنطق التداول والتبادل والتعاون والاعتماد المتبادل على علاقات الأطراف التي تشكّلها، لا يمكن أن يتحقّق من دون إنصاف الفلسطينيين والاعتراف بحقّهم في وطنهم، إذ لا يزالون يعيشون ويقاومون بأسنانهم وأظافرهم في غزّة والضفة والقدس. ولا أعتقد أن هذا مستحيل إذا اجتمع العرب فعلاً، أمام الغرب أو في مواجهته، كما لا يمكن لهذا التطبيع القانوني للعلاقات داخل المنطقة من أن ينعكس في الحياة السياسية داخل الدول العربية ذاتها، ويغيّر من طبيعة العلاقات المتوتّرة السائدة بين نظمها وحكوماتها من جهة، وشعوبها من جهة ثانية، وأن يفتح آفاقاً جديدةً للقيم الإنسانية والسياسية الإيجابية. فبمقدار ما سيساعد على تغيير مناخ الحرب الداخلية، المرتبط إلى حدّ كبير بمناخ الحرب الخارجية وهزائمها وإحباطاتها، يمكن للسلام المنشود أن ينقل مركز اهتمام الجمهور من دائرة الدفاع عن الوجود والهُويَّة والعقيدة والكرامة المفقودة (أو المُهدَّدة) إلى دائرة التفكير في تحسين شروط الحياة المادّية والمعنوية، أي في المصالح والحقوق والحرّيات والسعادة والتنمية الإنسانية الشاملة.
ليس هناك ما يمكن أن يُظهِر القوة الكامنة للدول العربية سوى تكتّلها في إطار مفاوضات جِدّية جماعية مع الولايات المتحدة والغرب
من دون تحقيق هذا السلام (البديل الوحيد لخيارَي الانتحار والاستسلام) لن تذهب المنطقة إلّا من خراب إلى خراب. ولن تبقى شعوب الخليج، التي لا تزال نسبياً بعيدةً من قلب العاصفة، بمعزل عن هذا الخراب إذا عمَّ. فلا ينبغي أن نعتقد أن القضاء على هذه الحركة الفدائية أو تلك “الإرهابية” سوف يحلّ القضية أو يحسمها.
والنتيجة أن سوء أحوالنا ليس مستقلاً تماماً عن سوء غايات أميركا وإسرائيل وسياساتها، من دون أن يعني ذلك تبرّؤنا من مسؤولياتنا. بالعكس تماماً، إجلاء هذا الواقع هو الذي يظهرها بمقدار ما يُبرز فشلنا نحن، سواء بسبب سوء فهمنا للمشكلات والتحدّيات التي تواجهنا، أو بسبب بؤس استجاباتنا وعطب خططنا واستراتيجياتنا، أنْ وجدت، في التصدّي لها. وأول عناصر سوء الفهم هذا يكمن في التركيز في القضية الفلسطينية، التي هي من عوارض المشكلة لا في جوهرها، واعتقادنا أنّنا إذا سلّمنا بخسارتها وتخلّينا عنها، يمكن أن ننقذ أنفسنا ونحمي مصالحنا الخاصّة. وثانيها الاعتقاد بأن الغرب قوة صديقة أو محايدة في مسألة هذا الصراع، وأن من الممكن إرضاءَه بالمواقف المحابية له أو استرضاءَه بالهدايا والمكرمات لشراء مساعيه الحميدة في تحييد إسرائيل أو حمايتنا منها، وهذا ما زاد من تغوّل الغرب والولايات المتحدة (قبل إسرائيل)، علينا، وفاقم من انقسامنا في مواجهتها، فصارت فلسطين قنبلةً حيّةً فجّرت المجتمعات العربية والعالم العربي من الداخل حتى انتهى بنا الأمر إلى التخلّي الفعلي عن فلسطين ونسيانها، لينتقل الصراع إلى داخل صفوفنا ويمزّق شعوبنا ويتركنا نهباً للنزاعات الداخلية والاتهامات المتبادلة، فصرنا نشكّ في أننا مجتمعات سياسية قابلة للتفاهم والحياة، ونهرب من بعضنا، ونستعدي واحدنا على الآخر، بدلاً من الاستفادة ممّا يجمع بيننا لتوحيد قوانا ومواجهة الأخطار المحدقة بمجتمعاتنا.
المصدر: العربي الجديد