محمد أبو رمان
واضح من الاختيارات السياسية التي أفصح عنها الرئيس الأميركي المُنتخَب دونالد ترامب لطاقمه السياسي، في وزارات الخارجية والدفاع والخزانة، والسفير الأميركي في إسرائيلي، وغيرهم، أنّنا أمام ما توصف إدارة يمينية أميركية مؤمنة بالمشروع الصهيوني والإسرائيلي إيماناً استراتيجياً عميقاً، وأن هنالك كارثة محقّقة بانتظار الفلسطينيين، بالرغم من محاولات ديبلوماسيين عرب عديدين تخفيف وطأة ذلك عبر التلميح إلى أن ترامب قد يحمل معه صفقات أو مفاتيح الحلّ لقدرته على الضغط على جميع الأطراف والوصول إلى صفقة.
أيّ صفقة لن تكون في صالح الفلسطينيين، وبمُجرَّد النظر إلى من أحاط نفسه بهم، فإن العنوان القادم بات جلياً مثل الشمس لا يعجز عن قراءته إلّا من في عينيه رمد. وبالتالي، أصبحت اليوم القضية الفلسطينية في قبضة اليمين، الإسرائيلي والأميركي معاً، وباتت في مرحلة خطيرة جدّاً، لاستكمال مشروع ترامب بتصفية ما تبقّى منها، بعدما بدأ بذلك في فترته السابقة. ما هي أجندة ترامب المتوقّعة تجاه القضية الفلسطينية أو التسوية السلمية المفترضة؟ وكيف يمكن أن نتمثّل تلك السياسات في المرحلة القادمة؟ وهل سيكون الشرق الأوسط في قائمة أولوياته أم سيحتّل مرحلةً متأخّرة وغير مهمّة في أجندته؟
“البنيامينية السياسية” أصبحت تُعلِن بوضوح رفض إقامة دولة فلسطينية من حيث المبدأ، وهنالك قرارات تقوم على ضمّ أجزاءَ من الضفة
لنبدأ من السؤال الأخير، ومراجعة الفكرة التي سادت خلال الأعوام الماضية أن الشرق الأوسط لم يعد ضمن اهتمامات الإدارات الأميركية أو أولوياتها، وأن الصين هي الشبح الحقيقي الذي أصبح يتصدّر استراتيجيات الأمن القومي الأميركي. الفكرة صحيحة من جهة، وخاطئة من جهة أخرى. صحيحة لأن الصين تمثّل التحدّي الحقيقي والأكبر للاقتصاد الأميركي أخيراً، وخاطئة لأنّها تقلّل من أهمّية إسرائيل وقيمتها تحديداً، وليس الشرق الأوسط فقط، بالنسبة للأميركيين، وتتغافل عن القوة الكبيرة للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، والرابط الوثيق بين الجماعات الإنجيلية الأصولية المهيمنة هناك وبين الصهيونية وإسرائيل، وهو عامل ديني تاريخي استراتيجي مُركَّب، لذلك رأينا كيف أنّ المسألة الأوكرانية، على أهميتها الكبيرة، باتت قضيةً ثانويةً في السياسات الأميركية، خلال العام الماضي، بعد عملية طوفان الأقصى، مقارنةً بإسرائيل وأهمّيتها للسياسة الأميركية.
سألتُ صديقاً أوروبياً عن السرّ في أن الولايات المتحدة هبّت بسرعة (بعد “طوفان الأقصى”) لإنقاذ إسرائيل، وحوّلت الاهتمام الدولي ومسار الأسلحة من أوكرانيا إلى إسرائيل، وحرّكت السفن والبوارج لمنع أي تهديد لها؟ … ضحك الرجل، وقال: كيف تستغرب ذلك. هذه ابنتها الصغيرة المدلّلة، كيف لأمٍّ أن تسمح بأن تكون حياة ابنتها في خطر وهي تشاهد ذلك. هذا جانب استراتيجي في العلاقة يتجاوز الديمقراطيين والجمهوريين، وقد وقع خلال مرحلة الديمقراطيين، فكيف نتوقّع أن تكون الحال ليس مع الجمهوريين، بل التيّار اليميني الذي بات يهيمن حتى على الحزب الجمهوري.
إذاً، وضمن ترتيب الأولويات؛ لن تكون ملفّات السياسات الشرق أوسطية وترتيب المنطقة، وأمن إسرائيل، ثانوية في مرحلة ترامب، بل ستكون من ضمن الملفّات ذات الأولوية له ولفريقه، والتوجّه الرئيس سيكون باستعادة فكرة إدماج إسرائيل في المنطقة، والمشروعات الإقليمية الاقتصادية، والضغط على إيران وتحجيم نفوذها الإقليمي، وترميم التحالفات مع الدول العربية، ومحاولة إبعاد روسيا عن إيران، وتفكيك هذا التحالف من خلال العمل على إنهاء الأزمة الأوكرانية.
على صعيد القضية الفلسطينية، يتمثل السؤال أو التحدّي الرئيس، أولاً، في موقف الإدارة الأميركية من الحرب الإسرائيلية على لبنان وحرب الإبادة في فلسطين. والمتوقّع أن تعمل الإدارة الأميركية على الفصل بين الملفَّين، وأن تضع الحالة اللبنانية ضمن سياقات تضمن أمن إسرائيل وتحدّ من قدرات حزب الله عسكرياً، وإيجاد ضمانات كافية لإسرائيل بأن الحزب لن يهاجمها مرّة أخرى، والعمل على إيجاد آليات لإضعاف قدرته في إعادة التسليح بصورة كبيرة.
وفيما يتعلّق بالحرب على غزّة، من المتوقّع أن يكون هنالك دفع أميركي لوقف لإطلاق نار ضمن حزمة كاملة لتصوّر “اليوم التالي” لترتيب أوضاع غزّة، وإعادة الإعمار، وإنهاء وجود حركة حماس السياسي والعسكري في القطاع، بصورة كاملة، وبمساعدة دولية وإقليمية، وهو ما يمكن أن نلمسه في محاولات بعض الدول في المنطقة القيام بالاستدارة مسبقاً، وإعادة التموضع تمهيداً للتعامل مع المرحلة الترامبية الجديدة.
السؤال الرئيس هنا ما إذا كان ترامب وفريقه سيوافقون على مخطّطات نتنياهو بإعادة احتلال جزء من قطاع غزّة، وتقطيعه بين الشمال والجنوب؟ … وربّما تبرير ذلك بوصفه إجراءً مؤقتاً إلى حين تحريك عجلة التسوية السلمية واستعادة السلطة الفلسطينية للقطاع. وفي هذا السياق كان جوهر الاختلاف الكبير بين نتنياهو والرئيس الأميركي الحالي جو بايدن؛ فبينما كان نتنياهو يرفض عودة السلطة الفلسطينية، ويريد السيطرة المباشرة وغير المباشرة على قطاع غزّة، فإنّ بايدين كان يصرّ مع دول عربية على عودة السلطة إلى القطاع، وربّما هنالك اليوم حديث ديبلوماسي عن حلّ وسط يتمثّل بلجنة فلسطينية محايدة تدير شؤون القطاع والمساعدات الإنسانية خلال مرحلة انتقالية، لكن هذا لا يجيب عن سؤال رئيس: هل ستنسحب إسرائيل من الشمال ومن سيناريو تجزئة القطاع أم لا؟ … على الأغلب، ستحاول إسرائيل ربط ذلك بخطّة زمنية وهمية بدعوى التأكّد من زوال خطر “حماس” عليها.
هذا وذاك، في الهامش، يطرح سؤال مستقبل حركة حماس، في ضوء أيّ عملية وقف إطلاق نار أو توافق إقليمي ودولي على ذلك، فما هي الحدود الدنيا التي يمكن أن تقبل بها الحركة؟ وماذا عن مصيرها في القطاع، بخاصّة أنّنا أمام إدارة أميركية ترفض بشدة أيَّ دور لحركة حماس؛ وتتعامل معها بوصفها مثالاً شبيها بـ”القاعدة” و”داعش”؟ وما هو مجال الصفقة الدولية الإقليمية الممكنة في هذا المجال؟
ملفّات السياسات الشرق أوسطية، وترتيب المنطقة، وأمن إسرائيل، ستكون من ضمن أولويات ترامب وفريقه
الملفّ الآخر الأكثر أهمّيةً (وطرافةً، بخاصّة عندما تنصت إلى النقاشات في أروقة الديبلوماسية العربية) يتمثّل في إمكانية إحياء عملية التسوية السلمية مع الرئيس ترامب، وهنا “المعضلة الكُبرى”؛ فأفضل ما يمكن أن يقدّمه ترامب هو “صفقة القرن”، التي تعني باختصار التنازل عن القدس واللاجئين والحدود والسيادة، والقوات المسلّحة، وتقطيع أوصال الضفّة الغربية، والاعتراف بالمستوطنات هناك، ومشكوك بدرجة كبيرة أن يكون هنالك أيّ قائد أو زعيم فلسطيني، أيّاً كان، قادراً على القبول به، هذا بالمناسبة السقف الأعلى، وذلك قبل أن تتكرّس “البنيامينية السياسية” بصورتها الأخيرة، التي أصبحت تُعلِن بوضوح رفض إقامة دولة فلسطينية من حيث المبدأ، وهنالك قرارات وقوانين تقوم على ضمّ أجزاءَ جديدةٍ من الضفة الغربية. والأخطر من ذلك أنّ ترامب أطلق وعداً جديداً في حملته بتوسيع رقعة إسرائيل، بما يتماهى مع الخطاب اليميني الإسرائيلي الجديد؛ إذاً وبالمختصر مصير القضية الفلسطينية في المنظور الأميركي الترامبي يترواح ما بين “صفقة قرن” تنزع الحقوق الفلسطينية (وغير ممكنة فلسطينياً)، ونكبة جديدة أكبر فيما يتعلّق بالضفة وغزّة والقدس واللاجئين، أو سيناريوهات وفِكَر تنهي تماماً قضية الدولة الفلسطينية.
ماذا عن الموقف العربي؟ … لا يوجد موقف عربي موحّد. السوريون والعراقيون جزء من محور إيران والممانعة (حتى الآن)، والإماراتيون والبحرينيون والمغاربة والسودانيون انخرطوا في التطبيع. بقيت مواقف الأردن والسعودية ومصر، ومن المعروف أن السعودية ربطت أيّ انخراط في التطبيع الإقليمي بإقامة دولة فلسطينية. والسؤال ضمن ما سبق: هل يمكن إقامة دولة فلسطينية بشروط ترامب؟ وهل ستضغط المملكة على الإدارة الأميركية لتحسين شروط “الصفقة”، أم على الفلسطينيين القبول بما هو معروض؟
وفيما يتعلّق بمصر، هل ستتجاوز القاهرة المحدّدات والحدود التي تموضعت فيها خلال الأعوام الماضية؟ أم ستحاول إعادة ترسيم الدور الإقليمي بصورة مختلفة؟ أمّا الأردن فلديه مشكلة حقيقية مع الإدارة الجديدة، يمكن أن نعود للحديث عنها وعن الموقف العربي بصورة مفصّلة لاحقاً.
المصدر: العربي الجديد