مهند ذويب
على ضفّة المتوسّط (الذي يطلُّ على شطّ فلسطين)، وتحديداً في طنجة، أقصى شمال المغرب، يقولُ صديقي لزميله الذي من غزّة: قلوبنا معكم… يتطلّعُ إلينا الأخيرُ، ثمّ يهمس: “وماذا نفعلُ بها؟”. … أمّا أنا فكنتُ أحدّق في صورةِ طفلٍ لا يتجاوز السّبعة أعوام في مخيّم النصيرات، وهو ينزحُ مرّة أخرى جرّاءَ قصف الاحتلال الإسرائيليّ مدرسةً تؤوي نازحين، ويحملُ على ظهره المنحني بعض متعلقاته في كيسِ طحين فارغ، فيبدو لي كأنّه يحمل ثِقلَ وكالة الأمم المتّحدة لغوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) على ظهره، وكلّ الوكالات الأمميّة التي عجزت عن حمايته ومنعِ تشرّده وجوعه وتقتيله دفعةً واحدة وبالتدريج.
وأفكّر: كانَ يمكنُ أن يكونَ هذا الطّفل الأوّل على صفّه، فرحاً بشهادته المدرسيّة، كانَ يُمكنُ أنه يلعبُ “الغميضة” مع أطفال المخيّم، كانَ كلُّ شيء سيكونُ ممكناً وطبيعياً لو لم توغِل دولة الاحتلال في دمه، ولو لم تُصادر الدنيا منه حقّ أن يبكي أو يخافَ على الأقل كأيّ طفل، ولو لم يتفرّج العالمُ عليه: طفلاً ولِدَ في الحصار (وأتذكّر أحمد الزّعتر)، ونزحَ كما نزحَ جدّه من خيمةٍ إلى خيمةٍ، طفلاً كبر فجأة، طفلاً لا أحد يعلمُ كَم جنازةً مرّت في عينيه، وكم قبراً فَتَّحَ الجيشُ المحتلُّ في صدره، ولم يعد أحدٌ يهتمُّ بمعرفة كم حرب قصفت صواريخُها أذنيه.
كان يبدو ثقيلاً ذلك الكيسُ الفارغُ من الطّحين، والذي يحملُ شعار “أونروا”، مثلما هو ثقيلٌ ذلك الوجودُ الفارغُ للمؤسّسات الأمميّة والقانون الدّوليّ وحقوق الإنسان، وفكّرتُ أنّه كما اقتضتُ الحاجةُ استعمالاتٍ جديدةً للكيس الفارغِ لحملِ بقايا من مدرسةٍ كانت تؤوي نازحينَ، تقتضي الحاجةُ استعمالاتٍ أخرى، للهيئات الدوليّة، الفارغة والمُفْرَغة، كأنْ توضعَ في المتاحف ليرى الناس خيباتهم وجهاً لوجه أو (…).
بين هذين المشهدين، يمُرُّ التّاسع والعشرون من نوفمبر/ تشرين الثاني، اليومُ الدّوليّ للتّضامُنِ مع الشّعب الفلسطينيّ، في ظلِّ استمرارِ الإبادة الجماعيّة في قطاع غزّة. وتفتحُ هذه المناسبة الأفق للتّفكير بفعل “الاستمرار” في السّياق الفلسطينيّ تفكيراً مُحايثاً من داخله؛ فاستمرارُ الإبادة يعني أولاً استمرارَ الفُرجة واعتيادها، قاسٍ ومؤلم ويخلّف شروخاً في القلب أنّنا نستطيع المواصلة، وأنّنا ننظرُ في عينِ دم الغزّيين مباشرةً ونُكمل، وأنّنا نواجه هذا الجنون والتّوحش وفائض القوّة بالبيانات والكتابات والكلام الفائض عن الحاجة (بما فيه هذا). وثانياً يعني استمرارَ الصّمود الفلسطينيّ، حيثُ ما زالَ الفلسطينيّ يواجِه بصدره العاري، وبصمودِه فوقَ الجغرافيا التي تُنهش وتتقلّص كُل يوم، آلة الاستعمار الاستيطانيّ الإحلاليّ، بكُلّ ما تمارِسه على الإنسان والأرض والذّاكرة من القتل والمحو والتّغييب، فتستمرُّ مُرافعة الفلسطينيِّ العزلاء أمامَ آلة الموتِ والاحتِلال والنّكباتِ المستمرِّة أيضًا، وتستمرُّ مرافعة أخرى، ترفعُ دمَها وترشُقُه على يباسِ القانون الدّوليّ.
استمرارُ الإبادة يعني استمرارَ الفُرجة واعتيادها
ويعني ثالثاً استمرارَ التّضامُنِ الحرِّ الإنسانيّ، الذي يحقّق “اختراقاتٍ” جيّدة، كقرار الجنائيّة الدوليّة الأخير، مثلما هو جيّد اعترافُ بعض الدّول الأوروبيّة (إسبانيا والنرويج وأيرلندا) بدولةٍ فلسطينيّة، ومثله تحوّلاتُ الرأي العام في الغربِ والولاياتِ المتّحدة بشكلٍ ملحوظٍ لصالحِ فلسطين. وأصفُ هذه “الاختراقاتِ” بأنّها جيّدة؛ لأنّها جاءَت نتيجة خلخلةٍ واضحة للرّواية والهيمنة الصهيونيّة التي كانَ يتمّ اعتمادها وتمريرها واعتناقها والانحياز إليها أبداً طوالَ السّنواتِ السابقة، والمستندةِ إلى عقدة المظلوميّة التاريخيّة، ودور الضّحيّة، والتي تمتلك تهمةً مكارثيّة جاهزة هي معاداة السّاميّة.
الاستمرارُ الرّابع الذي علينا التفكير فيه ملياً هو الاستمرارُ المَرَضيّ في انتظارِ الأسطورةِ المخلِّصة؛ إذْ يبدو أنّنا نسكُنُ الأسطورة لا لنرعاها من التّلف، بل كأنّ تلف الرّاهِن يعيدُ توليدها عبرَ المُتخيّل الجمعيّ الباحث عمّا يميِّزه (ويفرّقه) في آنٍ معًا، وعمّا يُخلّصه. غيرُ مفكَّر فيه جدًا التّوالد النّصوّي لكلّ ما هو مؤسطَر، وغيرُ مُجدٍ في جعلِ الرّاهن أقلّ توحّشاً وضياعاً؛ لأنّ انتظار إحياء الأسطورة عبر مخلِّص هو استسلامٌ غيرُ واعٍ لسلطة التّاريخِ التي هي عجلةٌ قصدُها التّجاوُز والمحو. وقَد يُصارُ إلى انتظار الأسطورة بالقياس؛ إذْ تغدو فكرةً مستقبليّة متخيَّلةً، فليسَ شرطُ الأسطورة أن تكونَ ماضية، وإنّما قد تكونُ نبوءةً أو وعداً متلبِّساً سلطةً غيبيّة. لذا؛ فانتظارُ الوعدِ لتحرير الأرضِ ما هو إلّا استسلامٌ للوعدِ النّقيضِ، بحيثُ يصبِحُ انتظارُ المُعجزة سيرورة أملٍ زائف، تشوّه الإنسانَ وتبيعه الوهم من حيثُ تدّعي صيانة حياته، تارةً باسمِ “التّهلُكة” وتارةً باسم “الممرِّ المؤقّت”. لأجل هذا كلّه… تستمرُّ (أبداً) جدوى فعلِ المُقاومة الفلسطيني.
المصدر: العربي الجديد