باسل . ف.صالح
قد تبدو للوهلة الأولى أن مهلة الستين يوماً الواردة في نص اتفاق وقف إطلاق النار بين العدو الإسرائيلي والدولة اللبنانية من أمام حزب الله، رقم محض اعتباطي تم وضعه، كما يمكن أن يكون أي رقم آخر. قد تبدو أنها مجرّد مرحلة بديهية، وأن الرقم لا يفيد ولا يقدّم ولا يؤخّر في أي شيء. ولكن بعد إمعان التفكير، يعود الرقم بنا إلى المرحلة التي تفيد بانتهاء ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن، وتسلُّم دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة.
هذا جزء من الرواية، وهو لا يعني شيئاً إن لم يجر استكماله في بُعد آخر من الرواية نفسها، إذ إن هناك من سيّل، وبشكل مقصود ربما، فرضية أن ترامب نفسه يريد أن تبدأ ولايته على طبق من فضة، من دون أن يكون هناك هذا الكم الهائل من المشكلات والحروب، لا في المنطقة، ولا في بقية العالم. إلا أن لا شيء يؤكد صحة هذه الفرضية أو دقّتها حتى الساعة، وإن كان ترامب نفسه قد لوّح بها بشكلٍ ما. ذلك لأن الفترة الاختبارية تنتهي آخر يناير/ كانون الثاني من العام 2025، حين يكون ترامب قد تسلّم الحكم وبدأت ولايته رسمياً. ما يعني أن هناك أقله قطبة مخفية، لعلها واضحة، أن هذه المرحلة هي مرحلة ليست فقط إدراك حزب الله خطورة الاتفاق ودهاليزه ودقّته، بل الشروع في تنفيذه على أرض الواقع، بداية من تسلّم الجيش اللبناني كل مفاصل المنطقة التي كانت تحت هيمنة الحزب وقواه المسلحة، كما الإفراج عن بقية الاستحقاقات الدستورية التي لا تبدأ برئاسة الجمهورية ولا تنتهي بتعيين حكومة أصيلة.
في هذا المكان بالذات يكمن الخطر من خلف بنود الاتفاق، على الرغم من أنه ينبني على قراراتٍ دوليةٍ سابقة، ليس أخطرها قرار مجلس الأمن 1559 وما ينص عليه من تسليم سلاح المليشيات اللبنانية، والمقصود هنا حزب الله، إلى الجيش اللبناني بوصفه القوّة الوحيدة التي يمكنها أن تكون مسلحة بشكل شرعي. بل المطلوب دوليّاً أن يدرك الحزب نفسه، وبالممارسة، أن عقارب الساعة لن تعود إلى الخلف، وأن نيّة ترامب ليس على المنوال البديهي الذي جرى تسويقه وترديده بأشكال مختلفة، بقدر ما قد يكون، خصوصاً في مرحلة رئاسته، أكثر حزماً وأشد نيّة لاستئناف التغطية السياسية للحرب الإسرائيلية في حال استمر حزب الله بممارسة ما يخالف المنصوص عليه في اتفاق الهدنة نفسه، إذ لا شيء يمنع أن يكون تأجيل الحرب اليوم، وذلك خلافاً لمجمل التوقّعات التي كانت سائدة قبل وقف إطلاق النار، تشي وكأن هناك ما هو خفي في الاتفاق نفسه، وأن السياق الذي أُعلن وقف إطلاق النار بموجبه غير منطقي، لأن القريب قبل البعيد يعرف أن هناك شبه استحالة للالتزام به، خصوصاً أنه، أولاً وأخيراً، وبشكل ما، وفي حال تنفيذه، يعني أن الحزب لم يعد يستطيع أن يبقى حزب الله على المنوال الذي نعرفه، ويعرفه العالم، لا على المستوى العسكري ولا حتى على المستوى السياسي.
من المحتمل جداً أن تكون هذه المرحلة “تقطيع وقت”، وأننا أمام موعد جديد من دوامة العنف التي قد تكون أخطر من التي جرى إيقافها بهذا الشكل السريع وغير المنطقي
هذه الحرب الوجودية التي فرضت على حزب الله ضرورة الانزلاق إليها، والتي يبدو أن مرحلة الانتقال منها لن تكون بوجوده، وفق قاعدة إما هو أو هي، لن تستمر إلا في المرحلة المتمثلة بالستين يوماً، هذا إذا ما استمرّت، متلازمة ليس فقط بحلّ حزب الله وجوده المسلح فحسب، بل بتغيير الواقع السياسي في سورية، ومن الممكن في إيران نفسها، ما يسهّل طبيعة الحرب عليه التي قد تُستأنف بعدها، فالمرحلة تشي أن مدّة الهدنة ليست مجرّد رقم بقدر ما هي خريطة طريق لا إمكانية للتملّص منها، ولا للالتفاف عليها، كما حصل في اتفاق قرار مجلس الأمن 1701، بل هي سيف مسلط سيبقى فوق رقاب المتعنتين إلى حين لمس ممارسة مختلفة في مجمل الملفات، والتي تعني انقضاء مرحلة فرض الشروط السياسية الإيرانية، وفرض نمط معيّن للاستحقاقات الدستورية، وفرض آلية ممارسة السياسة على منوال إما أن يكون ما أريد وإما أن لا يكون هناك أي استحقاق، والذي مارسه الحزب في العقود السابقة، ووسم مرحلة سيطرته على الدولة اللبنانية، أو ما تُعرف بمرحلة الشيعية السياسية، بأنها مرحلة انعطاب الدولة نفسها.
من هنا، وانطلاقاً من هذا السياق، من المحتمل جداً أن تكون هذه المرحلة “تقطيع وقت”، وأننا أمام موعد جديد من دوامة العنف التي قد تكون أخطر من التي جرى إيقافها بهذا الشكل السريع وغير المنطقي، وأن مرحلة الستين يوماً هي المدة التي أعطتها عواصم القرار لتغيير السلوك في لبنان بأكمله. فكأنهم يقولون، إما أن يفهم اللبنانيون، وفي مقدّمتهم حزب الله، هذا الأمر، وإما أن شهر فبراير/ شباط 2025 المقبل لن يكون أفضل من الشهور التي سبقت تاريخ توقيع وقف إطلاق النار المؤقت.
المصدر: العربي الجديد