غازي دحمان
أربكت التطورات المتسارعة في سورية خبراء السياسة والاستراتيجيا، فما حصل يمكن وصفه بالتغيرات النوعية المخلّة بالتوازنات القائمة منذ سنوات عدّة. والمحيّر إزاءها، أن موازين القوى لم تكن تُنبئ باحتمالاتٍ غير عادية، كما كانت هناك استعدادات متقابلة لدى أطراف الصراع، الأمر الذي فُهم وجود نوع من الردع المتكافئ يمنع أطراف الصراع من اختراق قواعد الاشتباك السارية منذ العام 2020، ومن ثم استمرارُ المعادلة الراهنة مرشّحٌ للبقاء على الأقل في المديين المنظور والمتوسط. ولكن يبدو ان هذه الحسابات النظرية لم تكن ذات أهمية لدى الجهة التي ترسم مسرح العمليات، وتراقب المشهد بصورة تفصيلية، وتستند على معطيات ومؤشّرات واقعية أكثر من التحليلات والافتراضات النظرية. وربما هذا هو سبب الفارق بين دهشة المراقبين من هذا التطور السريع في تحرير المناطق وخطوات المقاتلين الواثقة بأن الطريق سالكة إلى ما بعد حلب وسراقب، وأن المخاطر منعدمة أو شبه ضعيفة.
في غرف العمليات، كانت هناك معطيات جرى بناءً عليها رسم الخطط وتجهيز الموارد اللازمة للمعركة، والمؤكّد أن هناك طرفاً أو أطرافاً خارجية زوّدت هذه الغرف بمعلوماتٍ ربما لا تعرفها سوى استخبارات دولية، ترى المشهد من أكثر من زاوية وبصورة موسّعة. وفي الأغلب، هذه الجهة تركيا، وقد استفادت من المعلومات التي يوفرها حلف شمال الأطلسي (ناتو) ويتداولها مع تركيا بحكم الشراكة.
ربما يكون بعض هذه المعلومات، المعطيات، معلوماً، مثل أن المليشيات الإيرانية مستنزفة إلى حد بعيد، لكن تفاصيل هذا الاستنزاف، مثل سحب إيران جزءاً كبيراً من قياداتها إلى العراق، ومعرفة تأثير ذلك على أداء المليشيات الإيرانية ومعنوياتها، وما هي المفاصل التي تأثرت نتيجة الانسحاب هذه، ربما تحتاج إلى معلومات خاصة.
وفي المعلومات العامة أيضاً أن حزب الله سحب الجزء الأكبر من عناصره من جبهات القتال في سورية، والمؤكد أن الخسائر الكبيرة التي لحقت به على مستوى القيادة والكوادر القتالية أفقدته رفاهية مساندة النظام السوري في هذه المرحلة، حيث لم يتبين بعد أفق الحرب مع إسرائيل، وإلى أين ستتجه الأمور.
عناصر الفصائل يقاتلون من أجل العودة إلى أرضهم وبيوتهم التي هجّرهم منها النظام، في حين أن الطرف الأخر يقاتل من أجل الحفاظ على طاغية
بيد أن ثمّة معطىً لم يكن يتنبه إليه أحد، وهو سحب روسيا جزءاً كبيراً من أصولها العسكرية من سورية، خاصة الطائرات الحديثة التي صنعت الفارق في الحرب في الأعوام السابقة، كذلك ضعف إمداد روسيا قواتها بالأسلحة لحاجتها إلى الذخائر والأسلحة في أوكرانيا. أما ما يخص الفصائل، فكان من الصعب اكتشاف هذا الأمر، خاصة أن روسيا لعبت بذكاء عليه طوال الأشهر الماضية، إذ استمرّت طائراتها بالإغارة على مواقع الفصائل، والمؤكّد أن ثمّة طرفاً خارجياً رصد هذا التغير في الوجود الروسي في سورية. وبالإضافة إلى تهالك قوات النظام السوري وضعفها تسليحياً وانعدام الروح المعنوية لديها ولدى السوريين عموماً في مناطق سيطرة النظام.
هذه هي الأسباب التي صنعت المشهد الحالي، من دون إنكار شجاعة فصائل المعارضة وتضحياتها وقدرتها على إدارة المعارك، رغم أنها تعاني مشكلاتٍ لا تقل عن التي تعانيها جبهة نظام الأسد من ضعف في التسليح والإمكانات، بفارق مهم، أن عناصر الفصائل يقاتلون من أجل العودة إلى أرضهم وبيوتهم التي هجّرهم منها النظام، في حين أن الطرف الأخر يقاتل من أجل الحفاظ على طاغية، لا يهتم بهم، على كرسي الحكم.
على هامش الحرب، خرجت نظريات تفسيرية عديدة تسبح في فضاءات نظرية المؤامرة والصراعات الجيوسياسية العالمية وإعادة تشكيل المنطقة، والتي ربما تقاطعت إحداها مع الوقائع الجارية، لكن ليس بالضرورة أن تكون متطابقة مع هذه التصورات والرؤى التي يجري طرحها.
من المفترض أن 14 عاماً من الحرب علّمت السوريين كيف يديرون توقعاتهم وطموحاتهم
من هذه التفسيرات أن ما يجري هو نتيجة اتصالات الرئيس الأميركي المنتخب ترامب بالرئيس الروسي بوتين، ووعده بإجبار أوكرانيا على الجلوس على طاولة المفاوضات، وعدم مطالبة روسيا بالانسحاب، مقابل مساعدة بوتين على إنهاء الوجود الإيراني في سورية وقطع طرق الإمداد عن حزب الله. ولو افترضنا أن ذلك قد يكون صحيحاً، فهل يدفع بوتين الثمن في سورية قبل أن يقبض من ترامب في أوكرانيا، وهل يثق بوتين بأن “البنتاغون” سينفذ وعود ترامب؟.
وهناك تفسيرات أخرى تذهب الى وجود تعاون تركي خليجي لإقناع بوتين بإخراج إيران من سورية، مع وعد بإعمار سورية والمحافظة على النفوذ الروسي. وتقوم هذه النظرية على أساس أن سورية وصلت إلى جمود لن يتم تفكيكه إلا إذا خرجت إيران. وحتى لو كانت لدى الأسد النيّة الصادقة في إخراج إيران لن يستطيع فعل ذلك، بسبب تغلغل إيران في مفاصل أجهزته الأمنية وجيشه. وقد يكون هو نفسه أبلغهم بذلك، ودول الخليج لن تستطيع المساعدة في إخراج سورية من هذا الواقع إذا لم تنسحب إيران فعلياً، وليس مجرّد كلام. لكن هذه النظرية تُسقط حقيقة أن دول الخليج، وفق توجّهاتها الحالية، لن تدعم قوى إسلامية لتحلّ محلّ بشار الأسد.
من المفترض أن 14 عاماً من الحرب علّمت السوريين كيف يديرون توقعاتهم وطموحاتهم ويسترشدون بآمالهم، ومن الأفضل للمعارضة المسلحة هضم ما استعادت السيطرة عليه، وعدم توسيع رقعة انتشارها وبناء أنساق دفاعية وحماية خطوط الإمداد، وأن ينتظروا التفاعلات التي يسبّبها تقدّمهم الكبير في المعسكر المقابل.
المصدر: العربي الجديد