حسين عبد العزيز
أن تقرّر هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري وحدهما إسقاط النظام السوري، فهذا خارج منطق العقل والواقعين العسكري والسياسي القائمين في سورية والمنطقة والعالم، فلا يعقل أن تقرّر فصائل المعارضة المحشورة في محافظة إدلب منذ عام 2018 إسقاط النظام وحدها، بعد جهود عسكرية هائلة قامت بها روسيا وإيران وحزب الله، وتخاذل أميركي واضح منذ بدء الثورة عام 2011 في منع إسقاط النظام في مقابل استمرار الحرب هدفاً في حدّ ذاته، من شأنه أن يدمّر سورية، ويجعلها خارج المعادلات الإقليمية.
في مدار السنوات السابقة، كان أيّ تحرّك عسكري بسيط لفصائل المعارضة يحظى بقبول تركي روسي مسبق، فكيف الحال بعمليةٍ عسكريةٍ كبيرةٍ هدفها الوصول إلى دمشق؟ في المقابل، أن تتخاذل إيران ومعها المليشيات المتناثرة في سورية عن القيام بأيّ ردّ فعل عسكري للدفاع عن النظام، فهذا لا يتعلّق بضعفهم العسكري، على الرغم من الضربات العسكرية الإسرائيلية خلال عام، إذ تمتلك إيران عديداً بشرياً مقاتلاً كبيراً في سورية، ناهيك بقدراتها العسكرية.
لم تكن مصادفةً أن تبدأ عملية فصائل المعارضة السورية “ردع العدوان” بعد إعلان وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان
انسحابات قوات النظام السوري ومعها القوات الإيرانية لا يمكن تفسيرها بقوة فصائل المعارضة وتنظيمها وأدواتها العسكرية فقط، في مقابل ضعف قوات النظام وتشتّتها، فحجم الانسحابات والتراجعات يتجاوز مسألة القوة والضعف العسكريين للطرفين. كلمة سرّ سقوط النظام بهذه السرعة نابعة من قرار دولي تجمع عليه الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا وتركيا، رغم إعلان جميع هذه الدول أن لا علاقة لها بالحدث الكبير.
بالنسبة لروسيا، حجم الحرب الأوكرانية الكبير، واهتمام روسيا بحماية خاصرتها القومية، لا يكفيان لتفسير التقاعس الروسي في حماية النظام السوري، ذلك أن روسيا ليست دولةً عاديةً، فلديها قدرة عسكرية للدفاع عن بشّار الأسد، لكنّها أبت فعل ذلك. لقد دفعت روسيا تكاليف كثيرة في سورية لبقاء النظام، لكنّ الثمن الذي دفعته ظلّ مهدّداً بسبب تعنّت النظام السياسي، وسياستيه الاقتصادية والأمنية في الداخل.
كيف نُفسّر ما حدث في سورية بهذه السرعة؟ يعتقد صاحب هذه السطور أن اللغز يكمن في غزّة، فبعد “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر(2023)، اتُّخِذ قرار أميركي إسرائيلي (بدعم غربي) بإنهاء، ليس المقاومة المسلّحة في حدود فلسطين المحتلة فحسب، بل إنهاء كامل محور المقاومة، وخصوصاً سورية، باعتبارها مجاورةً لفلسطين، وبوابةَ عبور عسكرية لحزب الله. بعد عملية طوفان الأقصى، تغيّرت المقاربة الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية الأميركية بالكامل، واتُّخِذ القرار بعدم فسح المجال نهائياً لتكرار ما حدث مهما كلّف الأمر. ولم تكن مصادفة أن تبدأ العملية العسكرية “ردع العدوان” لفصائل المعارضة بعد إعلان وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان.
حرّرت المقاومة الفلسطينية في غزّة سورية، وقد يكون هذا ثمناً يخفّف علينا من أوجاعنا تجاه قطاع غزّة المدمّر
لقد اتُّخِذ القرار بإسقاط النظام السوري، ولكن بصفقةٍ لن تتضح معالمها الآن. وما يؤكّد وجود اتفاق مسبق إعلان موسكو من بداية الهجوم العسكري أنها ليست في صدد ردّ الهجوم العسكري للمعارضة، كما يمكن تلمّس هذا الاتفاق من التصريحات الرسمية التركية، التي كانت في بداية الهجوم تؤكّد عدم علم أنقرة به، ثمّ ما لبث الخطاب الرسمي أن تحدّث عن أن الهجوم جاء بعد رفض الأسد الاستجابة لمطالب تركيا بالتسوية، ثمّ الحديث عن أن الهدف النهائي هو دمشق. لم يكن هذا مُجرَّد انعكاس مباشر للتطوّرات العسكرية في سورية، بل كان تعبيراً عنه وعن أهدافه، وما إعلان تركيا الحياد بداية الأمر إلّا مراوغةً سياسيةً ليس إلّا.
كما تمكن رؤية هذا التغيّر من خلال الخطاب الرسمي الإيراني، ذلك الخطاب الذي بدأ أولاً بالحديث عن مؤامرة أميركية إسرائيلية لدعم الإرهاب في سورية، ثمّ عدم استخدامه مصطلح “الإرهاب” لوصف المعارضة، ثمّ الحديث عن ضرورة حدوث اتفاق سياسي بين النظام والمعارضة السورية. أدركت إيران، منذ البداية، أن ثمّة اتفاقاً إقليمياً دولياً مُضمراً بإنهاء نظام الأسد، كما أدركَت أن محاولة تدخّلها ستُلاقَى بردّ عنيف جدّاً من إسرائيل والولايات المتحدة.
لقد حرّرت المقاومة الفلسطينية في غزّة سورية، وقد يكون هذا ثمناً يخفّف علينا من أوجاعنا تجاه قطاع غزّة المدمّر واستشهاد عشرات الآلاف. إنّ نضالكم في غزّة واستشهادكم لم يذهبا سدىً، إذ غيّرتم وجه المنطقة بسقوط النظام السوري. شكراً للمقاومة الفلسطينية ولأهلنا في غزّة، ألمكُم ألمنا ومصيركم مصيرنا، وشكراً للشهيد الكبير يحيى السنوار.
المصدر: العربي الجديد