عدنان علي
تمضي عملية نقل السلطة في دمشق بسلاسة كبيرة وسط ارتياح شعبي برحيل النظام البائد الذي عمّ كل المناطق السورية، مع أقل قدر من الأخطاء والتجاوزات التي عادةً ما تحدث في حالات مشابهة.
غير أن ما عكر صفو هذه العملية ونغّص فرحة الشعب السوري بهروب حاكمهم المعتوه، إضافة إلى غموض مصير نحو مئة ألف من المعتقلين في سجون النظام البائد، الذين يُعتقد أنه تمّت تصفيتهم، هو الاعتداءات الإسرائيلية الواسعة التي بدأت في اليوم الأول من سقوط النظام. وقد طالت مئات الأهداف العسكرية ومراكز البحوث في أرجاء سوريا كلها، رافقها احتلال إسرائيل لمناطق في سوريا، وإلغاء اتفاقية الهدنة معها الموقعة عام 1974، وسط صمت مريب من الجميع، وكأن ما يحدث هو من حق إسرائيل.
شملت الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة حتى الآن آلاف المواقع، وجرى خلالها القضاء على كل سلاح الطيران في سوريا، والدفاعات الجوية، ومعظم سلاح البحرية، وأنظمة الصواريخ المتقدمة، ومستودعات الأسلحة، والمنشآت لتصنيع الذخائر، والمصانع والمعاهد البحثية العسكرية، وحتى الدبابات والأسلحة الثقيلة. وقد بررت إسرائيل ذلك بزعم أن هذه الأسلحة قد تشكل خطراً على أمنها في حال وقوعها بأيدي القوى الجديدة التي تسلّمت السلطة في سوريا. ورافق ذلك توغلات إسرائيلية واسعة في الأراضي السورية وصلت إلى منطقة قطنا التي تبعد عن دمشق نحو 20 كلم فقط، إضافة إلى احتلال قمة جبل الشيخ الاستراتيجية.
إسرائيل، التي طالما دعمت نظام بشار الأسد وسمحت لإيران وميليشياتها بمنعه من السقوط طوال السنوات الماضية، تسعى اليوم، وقد فوجئت بسرعة وصول فصائل المعارضة إلى دمشق، لاستغلال انشغال القوى الجديدة بترتيب الأوضاع الأمنية والخدمية للبلاد، وعدم رغبتها في فتح معارك خارجية، لتحطيم ما تبقى من الدولة السورية. يهدف ذلك إلى تصعيب عملية نقل السلطة، ووضع الإدارة الجديدة في سوريا أمام تحديات جديدة، على أمل استفزازها للرد، مما يتيح لإسرائيل تحريض الغرب والولايات المتحدة لتصنيفها في خانة القوى الإسلامية المتطرفة المعادية لإسرائيل، وبالتالي عدم الاعتراف بشرعيتها وحجب أية مساعدات محتملة عنها.
كما تسعى حكومة الاحتلال الإسرائيلي إلى استغلال حالة الفراغ السياسي في سوريا لقضم أراضٍ سورية جديدة تحت ذريعة الحفاظ على أمنها، زاعمةً أن ذلك سيكون إجراءً مؤقتاً، لكن التجارب السابقة تشير إلى أن أية أرض تحتلها إسرائيل لا تنسحب منها بسهولة، بل تجد الذرائع لتبرير احتلالها مستقبلاً.
من الواضح أن إسرائيل تحاول فرض أمر واقع جديد على الحكم المقبل في سوريا، مستغلةً عدم رغبة وقدرة هذا الحكم على فتح معارك خارجية في الوقت الحاضر، نظراً لضخامة المهام الملقاة على عاتقه في الداخل السوري.
إلى ذلك، تحاول إسرائيل العبث بالوضع الداخلي في سوريا من خلال فتح اتصالات مع بعض القوى الكردية في شرق سوريا، وتشجيعهم على عدم التعاون مع الحكم الجديد، بغية إبقاء جذوة الصراع في البلاد متقدة، ولمنع الحكومة الجديدة من وضع يدها على المقدرات النفطية التي تسيطر عليها تلك القوى، والتي تُعدّ ضرورية جداً للبلاد في هذه المرحلة، لتمكينها من سد الاحتياجات الداخلية من كهرباء وغاز، وتوفير مصدر دخل لخزينة الحكومة التي تركها نظام الأسد فارغة.
ولا شك أن الحكومة المتطرفة في إسرائيل ستواصل هذه العمليات التي بدأت تشمل تنفيذ اغتيالات للكوادر العلمية في سوريا، بهدف القضاء على الإمكانات البشرية والعلمية في البلاد، ذلك أن مصلحة إسرائيل تقتضي بقاء سوريا ضعيفة ومشتتة في صراعات داخلية، غارقة في المشكلات الأمنية، وتلهث دائماً لتأمين المتطلبات الأساسية لمواطنيها.
من هنا، من غير المستبعد أن تلجأ إسرائيل إلى تنفيذ اغتيالات وتفجيرات في بعض المناطق، بغية تأليب كل القوى على بعضها البعض، عبر اتهامات متبادلة بالوقوف وراء هذه الأعمال، أو اتهام الحكم الجديد بالتقصير في توفير الحماية والأمن في البلاد.
في هذه المرحلة الحساسة، لا ينبغي ترك الإدارة الجديدة في سوريا من دون مساعدة خارجية، والتي تفتقر إليها حتى الآن، في ظل ترقب مفتعل من جانب المجتمع الدولي لمراقبة سلوك الإدارة الجديدة. وعلى بعض القوى الفاعلة في الشأن السوري عدم انتظار تبلور المواقف الغربية والأميركية، بل التحرك لمساعدة هذه الإدارة التي تشكل بارقة أمل للسوريين بعد عقود من الحقبة الظلامية لحكم آل الأسد.
ولعل في مقدمة الدول المطالبة بالتحرك في هذا الإطار، تركيا التي كان لها دور فاعل في القضية السورية طوال الفترات الماضية، من خلال تقديم المساعدة والمشورة الفنية والاقتصادية والأمنية للحكومة الجديدة، وكذلك قطر من خلال الدعم المالي. كما يجب على الناشطين السوريين في الولايات المتحدة الذين كان لهم دور فاعل في استصدار قوانين وتشريعات أميركية ضد نظام الأسد، أن يعملوا على رفع هذه القوانين، وإقناع صناع القرار في واشنطن بفك سياساتهم في سوريا عن سياسة إسرائيل، لأن الأخيرة من مصلحتها دوام الضعف والتفتت في هذا البلد، بينما يُفترض أن تكون مصلحة الولايات المتحدة في رؤية سوريا مستقرة وقادرة على النهوض من جديد.
المصدر: تلفزيون سوريا