علي العبد الله
نجحت عملية “ردع العدوان” بقيادة هيئة تحرير الشام في إسقاط النظام السوري في فترة قصيرة جدا؛ ما عكس مستوى الترهّل والإنهاك الذي بلغه جيشُه وأجهزة مخابراته. وقد ترتّب على هذا النجاح التخلص من بنى سياسية واجتماعية ومذهبية قائمة. أولها نظام حكم أسري، قمعي وفاسد، لم يكتف بنهب المال العام، بل وتفنّن في أساليب استحواذٍ على ممتلكات المواطنين ومقدّراتهم ودفعهم إلى حافة الجوع في عملية إذلال وقهر ممنهجة لم تشهدها سورية التي عرفت أنظمةً قمعيةً في فترات سابقة من تاريخها. ثانيها إنهاء الوجود الإيراني الكثيف على الأرض السورية، وتخليص البلاد من مخطّط خبيث لزرع عوامل عدم استقرار وضعف دائميْن في المجتمع السوري، عبر تجنيس آلاف الأسر الشيعية، إيرانية وعراقية وباكستانية وأفغانية، ونشر المذهب الشيعي الاثني عشري فيه، لزيادة عدد حاضنة النظام الإيراني المذهبية، وتوسيع قاعدة نفوذه في سورية. ثالثها إسقاط تفاهمات مسار أستانة وسوتشي. رابعها وآخرها إسقاط مؤسّسات المعارضة، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة وهيئة التفاوض، عبر عدم إشراكها في العملية أو التشاور معها.
لم يتوقّع أحدٌ حصول الانتصار على النظام البائد بهذه الصورة الصاعقة والعاصفة، حيث دقت السيطرة السريعة على مدينة حلب جرس إنذار لآلاف المواطنين السوريين من أبناء الطائفة العلوية، في الجيش والمخابرات والوظائف الحكومية والقطاع الخاص والطلاب، ودفعتهم إلى إرسال أسرهم إلى مدن الساحل، طلبا للأمان ضمن البيئة العلوية هناك، قبل أن يحصل نزوح جماعي لدى وصول أنباء السيطرة على مدينة حمص، التي حُصّنت كي تكون خط الدفاع الرئيس عن العاصمة دمشق؛ وبدء دخول طلائع قوات المعارضة من الجنوب، درعا وريف دمشق، أطراف العاصمة، حيث تخلّى الجنود والضباط عن أسلحتهم وألبستهم العسكرية وتحرّكوا سيراً على الأقدام لمغادرة المناطق التي ترابط فيها القطعات العسكرية والمخابراتية التي ينتسبون إليها.
لا يمكن تفسير الانهيار النفسي والمعنوي لقوات النظام وأجهزة مخابراته بتهتك هذه المؤسّسات وترهلها، بسبب سياسات التمييز والفساد، على أهميتها، ما يستدعي إمعان النظر في المشهد العام، وما فيه من تباين وتعارض وتناقض بين المواطنين على خلفيات دينية ومذهبية وقومية واجتماعية، نشأت ونمت بفعل سياسات النظام البائد، وما أفرزته من ممارساتٍ قائمةٍ على التنمر والابتزاز، وما خلفته من مرارات واحتقان وبغض وغضب لدى شريحة واسعة من المواطنين من غير العلويين، جسّدتها عمليات تعفيش دوائر الدولة ومقرّات أجهزة المخابرات والمواقع العسكرية، باعتبارها جزءاً من النظام، وبيوت النازحين من أبناء الطائفة العلوية في المدن والبلدات، وحصول حوادث انتقام بالقتل كما حصل في مدينة حماة بقتل مُخبرين للنظام وفي قرية ربيعة التي هاجمها موالون للنظام، ما استدعى انتقام شباب من مدينة حماة لهم من المهاجمين.
يأتي إعلاء الوطنية والمواطنة باعتمادها قاعدة للنظام القادم، ووضعها في مقدّمة العوامل اللازمة لعملية رأب الصدع الاجتماعي الديني والمذهبي والقومي
غذّى هذا المناخ المحتقن الكراهية والأحقاد ضد العلويين لدى أبناء السنة؛ وبدرجات أقلّ لدى الدروز والإسماعيليين والمسيحيين، وبذر بذور الحذر والقلق والخوف لدى أبناء الطائفة العلوية الذين باتوا مقتنعين بحتمية انتقام الطرف الآخر منهم، عندما تأتيه الفرصة المواتية، مع أن أغلبية أبناء الطائفة قد لحق بهم أذىً شديد، وهم متضرّرون من حكم آل الآسد، وفق عدد من وجهائهم. وهذا مهّد الطريق للانهيار والهروب الكبيرين في ضوء الشائع عن “هيئة تحرير الشام” وممارساتها ضد المواطنين بشكل عام، وضد أبناء الطوائف غير السنية بشكل خاص خلال سنوات حكمها في محافظة إدلب. لقد أسّست الصورة الذهنية السلبية عنها وعن مشروعها السياسي، إقامة كيان سنّي، لدى أبناء الأديان والمذاهب الإسلامية غير السنّية بشكل عام ولدى أبناء الطائفة العلوية بشكل خاص لعملية مفاصلة نفسية وشعورية لم تُجدِ معها تحوّلات “الهيئة” السياسية والاجتماعية وتوددها للمسيحيين والدروز في محافظة إدلب وتبرؤها من التشدد بمحاربة فصائل سلفيّة متشدّدة مثل حرّاس الدين والحزب التركستاني والترويج لتبنيها قراءة معتدلة للنصّ الديني، عزّزت دعاية النظام بين أبناء الطائفة المخاوف عبر إقناعهم بأن أمنهم ومصيرهم مرتبط ببقائه وقد حركت عملية “ردع العدوان” المخاوف وبعثت، على خلفية تمدّدها وهدفها المعلن: إسقاط النظام، كوابيس التاريخ القديم وذكرياته المرعبة. لقد أسبغ مشروع “الهيئة”، إقامة كيان سنّي، ظلالاً قاتمة على المشهد السياسي القادم وشكلا محدّداً لمواقف أبناء الأديان والمذاهب الإسلامية الأخرى من “الهيئة”؛ باعتباره مصدراً للخطر، ما يستدعي مواجهته عبر تشكيلات طائفية موازية؛ ستقود، بالضرورة، إلى تكريس التفتت والتشتت الوطني.
تنطوي المرحلة الراهنة من عملية تشكيل نظام سياسي بديل على عقبات ومخاطر جمّة، تتمثل في قدرة “الهيئة” والفصائل المشاركة معها في عملية “ردع العدوان” على طمأنة أبناء الأديان والمذاهب الإسلامية غير السنية وفتح طريق للاندماج الوطني، وقدرتها والفصائل المشاركة معها على إدارة دولة وحكم شعب يقوق عددُه عشرين مليون إنسان في ظل عدم وجود موقف محدّد متفق عليه بينها، بالإضافة إلى ما تمثله القوى التي جاءت من الجنوب، درعا وريف دمشق، والتي غدت شريكاً بحكم الأمر الواقع، وما تحمله من أفكار وتصوّرات وتاريخ من الممارسات السلبية وغير المنسجمة مع روحية ثورة الحرية والكرامة، وما يشهده الوضع من تعقيدات سياسية واجتماعية واقتصادية، من التمزّق الأسري والضحايا وأصحاب العاهات البدنية والنفسية، ونقص الأيدي العاملة الماهرة، بسبب النزوح واللجوء، إلى الدمار الكبير في البنى التحتية والمدارس والمشافي والمصانع والمزارع والمدن والبلدات والقرى، ما يعقّد عملية استقبال النازحين واللاجئين الذين سيعودون إلى الوطن؛ مروراً بتراجع حجم الاحتياط من النقد الأجنبي والذهب بشكل كبير؛ بعد الهدر والنهب اللذين أقدم عليهما النظام البائد طوال العقد الماضي لتمويل حملته الوحشية ضد الشعب واسترضاء مرتزقته وحاضنته؛ والمديونية العالية، إلى توفير إمكانات لتعويض المتضرّرين، وحل مشكلة المختفين قسرياً وتعويض أهالي المقتولين تحت التعذيب، وتحقيق العدالة الانتقالية وإنجاز المصالحة الوطنية. إلى التعاطي مع الضغوط والمطالب الإقليمية والدولية، حيث للدول الإقليمية والدولية مطالب تتعلق بشكل الحكم القادم والسياسة الداخلية والخارجية التي سيعتمدها النظام الجديد.
تريد روسيا حماية القاعدتين البحرية والجوية وحماية استثماراتها ومشاريعها الاقتصادية. وتركيا هي الأخرى تريد من النظام القادم أن يُنهي مشروع “الإدارة الذاتية” شمال شرق سورية
وقد بدأ الكيان الصهيوني بالضغط لفرض مطالبه عبر احتلال مناطق شاسعة من محافظة القنيطرة (حوالى 80 كيلومترا مربعا)، وقصف مستودعات أسلحة ومراكز بحوث بذريعة عدم وقوع محتوياتها بأيد تنظيمات متشدّدة. الدول الغربية، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، هي الأخرى بدأت بطرح مطالب محدّدة بشأن حقوق الإنسان والأقليات والحريات الدينية، وتشديدها على دور إيران في تدمير سورية وعرقلة تنفيذ العملية السياسية لتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 في مسعى إلى دفع النظام الجديد للتصويب على النظام الإيراني، ولمحت الإدارة الأميركية إلى احتمال رفع اسم هيئة تحرير الشام من لائحة الإرهاب. وروسيا تريد حماية القاعدتين البحرية والجوية وحماية استثماراتها ومشاريعها الاقتصادية. تركيا هي الأخرى تريد من النظام القادم أن يُنهي مشروع “الإدارة الذاتية” شمال شرق سورية. وليست الدول العربية بعيدة عن مطالب تركيا عبر الحديث عن وحدة سورية وسيادتها. إيران تطالب بحماية الشيعة السوريين والابتعاد عن الكيان الصهيوني، وتداعيات ذلك على استقلالية القرار الوطني. وهذا من دون أن ننسى المستوزرين من شخصيات المعارضة التي بدأت تتحرّك وتطرح تصورات تحجز فيها لنفسها أدوارا ومواقع رئيسة بذريعة أنها أم الولد، أصحاب الثورة وممثلوها سنوات.
لقد أدّت السياسات المتبعة من “الهيئة” وفصائل “الجيش الوطني السوري”، وخصوصا تحرّك الأخير ضد المواطنين الكرد في ريف محافظة حلب وناحية عفرين بشكل خاص، طوال العقد الماضي، إلى جمود عميق في علاقات السوريين بعضهم ببعض؛ حيث باتت النمطية مسيطرة على التقديرات، والأحكام المسبقة سيدة الموقف، ما أدّى إلى تصلّب الروابط المجتمعية وتكلّسها. ويفرض هذا وضع سلم أولويات قادر على احتواء الأخطار الظاهرة والكامنة، من أجل إيجاد أجواء إيجابية ومواتية لمجابهة الانقسامات العمودية بين أبناء الوطن الواحد.
تستدعي اللحظة السياسية الدقيقة والخطيرة كثيراً من العقلانية والتفكير البارد لتقويم كل العناصر الإيجابية والسلبية في الوضع وتحديد العقبات
وعليه يأتي إعلاء الوطنية والمواطنة باعتمادها قاعدة للنظام القادم، في مقدّمة العوامل اللازمة لعملية رأب الصدع الاجتماعي الديني والمذهبي والقومي. فحكومة وحدة وطنية ببرنامج وطني ضرورة قصوى لبدء عملية رأب الصدع. وهنا يجب الكفّ عن ترداد الأسطوانة المشروخة بتحميل النظام السابق المسؤولية بشأن ما آل إليه الاجتماع الوطني من انقسام وانعدام ثقة وقلق وجودي؛ لأنها لا تشكّل قيمة عملية في مواجهة المأزق الراهن. نحن بحاجة إلى عملٍ مباشرٍ على تحفيز الوطنية بالعدالة والمساواة، فتحريك العناصر الجامعة أجدى من الاكتفاء بالندب الذي يعكس حالة العجز وغياب الوعي والجدّية. يأتي تشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة في المرتبة الثانية، واختيار سياسة داخلية تحقّق العدالة والمساواة بين المواطنين؛ وخارجية تحقق المصالح الوطنية العليا، مرنة ومنفتحة على الدول، من أجل التعاون وتبادل المنافع ما يسهّل رفع العقوبات التي فرضت على النظام البائد، والتي أضرّت بالمواطنين أكثر من النظام الذي كان يستحوذ على الخيرات المتوفرة والمساعدات من حلفائه، وجلب المساعدات والاستثمارات لتوفير متطلبات تحسين معيشة المواطنين وإطلاق عملية إعادة الإعمار التي تحتاج مليارات الدولارات، وللاستمرار في توفيرها طوال فترة إعادة الإعمار التي لن تكون قصيرة.
تستدعي اللحظة السياسية الدقيقة والخطيرة كثيراً من العقلانية والتفكير البارد لتقويم كل العناصر الإيجابية والسلبية في الوضع وتحديد العقبات، الكبيرة والصغيرة، ودراسة الخيارات والتبعات التي تترتّب على كل خيار، والتأثير المتبادل بين جميع العناصر ووضع سلم أولويات، وحلحلة العُقد والمشكلات في تصوّر منطقي شامل يتيح الانطلاق والاستقرار والاستمرار.
المصدر: العربي الجديد