محمد أحمد بنيس
أخيراً، تنفس السوريون الصعداء، بعد سقوط نظام بشار الأسد الدموي الذي أذاقهم شتى أنواع القمع والاضطهاد؛ سقط بعد زهاء 14 سنة من اندلاع الثورة السورية التي تصدّى لها بقمع وحشي، قبل أن تنزلق إلى حرب أهلية، ساهم الصراع على النفوذ في الإقليم في تغذيتها وخروجها عن المسار السلمي الذي رسمته منذ خروج أول مظاهرة في مدينة درعا، منتصف مارس/ آذار 2011.
بالطبع، أنضج سياق ما بعد 7 أكتوبر (2023) الظروف الإقليمية والدولية التي عجّلت بسقوط نظام الأسد، بعدما تخلى عنه حلفاؤه في إيران وروسيا. وعلى الرغم من أن سقوطه يعدّ مؤشّراً إلى تنامي وعي شعوب المنطقة بضرورة القطع مع الاستبداد والفساد وبناء أنظمة منتخبة، تقوم على حكم المؤسّسات والفصل بين السلطات وسيادة القانون واحترام الحقوق والحريات، على الرغم من ذلك، تواجه سورية تحدّيات جسيمة بعد سنوات من الحرب التي مزّقت النسيج الاجتماعي، وأجّجت الانقسام الطائفي والمذهبي، ودمّرت البنية التحتية، وأنهكت الاقتصاد، فضلاً عن كلفة بشرية باهظة تخطّت نصف مليون قتيل وملايين اللاجئين الذين نزحوا إلى الخارج.
أولُّ هذه التحدّيات استتباب الأمن والحيلولة دون انجرار البلاد إلى الفوضى وعدم الاستقرار، في غياب سلطة بصلاحيات واضحة. ويمرّ ذلك عبر الحفاظ على مؤسّسات الدولة وضمان استمراريتها. وهو ما يبدو أن المعارضة المسلحة كانت واعية لأهميته، ولا سيما أمام التصدّعات الطائفية التي أحدثتها الحرب داخل المجتمع السوري. ويزداد الأمر أهمية بالنسبة للجيش الذي استنزفه النظام السابق، وقوّض شرعيته الوطنية، بعدما جعل منه جيشاً في خدمة عائلة الأسد. ولذلك ينبغي أن تقع إعادة بنائه، من دون حلّه، ضمن الأولويات الوطنية الكبرى، حتى يكون عامل استقرار في هذه اللحظة الحرجة التي تجتازها البلاد.
ثانياً، العمل على تأمين المرحلة الانتقالية بأقل التكاليف، بتوسيع قاعدة التوافق الوطني والأهلي بين مكونات المعارضة المسلحة، وأيضاً باتجاه باقي مكونات الطيف السياسي السوري، بتنويعاته الفكرية والأيديولوجية، مع الحرص على إدماج كل الطوائف والمذاهب والأعراق، بما في ذلك الطائفة العلوية، التي ينتمي إليها الرئيس المخلوع، لما لذلك من أهميةٍ في إعادة بناء اللُّحمة الوطنية السورية. من هنا، المعارضة المسلحة مطالبة بأن تكون مرنةً في تعاطيها مع القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى، خصوصاً مع وجود مخاوف داخلية وإقليمية ودولية من ”الخلفية الجهادية” لبعض مكوّناتها. وبقدر ما ستنجح في توحيد صفوفها ستكون قادرة على إدارة التفاوض مع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة.
ثالثاً، إدارة الضغوط الإقليمية والدولية؛ ذلك أن سقوط النظام في بلدٍ مثل سورية، بكل أهميتها الجيوسياسية، يضع السلطة الجديدة أمام اختبار مجابهة هذه الضغوط. فمن المؤكّد أن القوى الإقليمية المؤثرة تسعى إلى استثمار التغيير الحاصل لمصلحتها، خاصة بالنسبة لإيران وتركيا وإسرائيل، فإيران تعرف أنها فقدت إحدى قلاعها الاستراتيجية الكبرى في الإقليم. ومن الطبيعي أن تحاول حصر نزيف خسائرها وإيجاد صيغة للتقارب مع النظام الذي سيحكم سورية في المستقبل. أما تركيا، فهاجسها الأكبر يبقى استغلال أكراد سورية حالة عدم الاستقرار التي تمرّ بها سورية لتأسيس كيان كردي في الشمال، بما يمكن أن يهدّد الأمن القومي التركي، ويشكل عمقاً استراتيجياً لحزب العمال الكردستاني. أما إسرائيل، فتتطلع لتحقيق مكاسب استراتيجية جديدة، تمكّنها من تكريس تفوقها وفرض هيمنتها على دول الإقليم. ولذلك تسابق الزمن، ليس فقط لأجل تعزيز وجودها العسكري في الجولان المحتل وجبل الشيخ الذي احتلته بعد انسحاب قوات الأسد، بل أيضاً من أجل تدمير المقدّرات العسكرية السورية، في مسعى إلى إجهاض أي نهوض استراتيجي لسورية في المستقبل، وهو ما بدأت به فعلا بعد ساعات قليلة من سقوط نظام الأسد.
تقف سورية أمام مفترق طرق مفصلي؛ فإما أن تنجح، بسواعد أبنائها، في إعادة بناء الدولة الوطنية وفق عقد اجتماعي جديد، أو تنزلق، على غرار ما حدث في ليبيا واليمن والسودان، إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار.
المصدر: العربي الجديد