محمود علوش
منذ اندلاع الثورة السورية قبل 14 عاماً، وضع السوريون هدفين واضحين لها: التخلص من حكم آل الأسد الذي أسس جمهورية الرعب على مدار أكثر من خمسة عقود، وبناء سوريا الجديدة القائمة على معايير المواطنة والديمقراطية ودولة المؤسسات. بفرار الديكتاتور بشار الأسد من دمشق وانهيار نظامه، يكون الهدف الأول قد تحقق. لكنّ الهدف الثاني لا يقل صعوبة وأهمية عن الأول.
حقيقة أن الأسد ترك خلفه بلداً مُحطماً على كل المستويات تُضاعف من حجم التحدي على السوريين. لقد لعبت العوامل الخارجية المؤثرة في الصراع وعلى رأسها الداعمان الروسي والإيراني للنظام وتخلي المجتمع الدولي عن التزاماته بدعم تطلعات السوريين للحرية دوراً رئيسياً في جعل تكاليف التخلص من نظام الأسد باهظة إلى هذا القدر. لكنّ العوامل نفسها كان لها الدور الأكبر في التخلص منه. إن قرار كل من موسكو وطهران عدم التدخل لإنقاذ الأسد في الأسابيع الأخيرة التي أعقبت انهياره نظامه، تُشير إلى حقيقة أن حلفاء النظام أنفسهم لم يعودوا يجدون فائدة لهم في استمراره. ولا يرجع ذلك إلى أنهم أرادوا التكفير عن خطاياهم تجاه الشعب السوري بقدر ما أنهم لم يعودوا قادرين على تحدي طموحات السوريين لاعتبارات خاصة بهم.
لا تُقلل التحولات الكبيرة التي طرأت على ديناميكيات السياسات الإقليمية والدولية المؤثرة في سوريا في السنوات الأخيرة بطبيعة الحال من شأن الإرادة الصلبة التي أظهرها السوريون لمواصلة النضال ضد حكم آل الأسد رغم التكاليف الباهظة التي تكبّدوها. وهذا ما يُظهر حاجتهم اليوم إلى الاعتماد على أنفسهم بقدر كبير للعبور نحو الدولة الجديدة. إن العلاقة الجيدة مع المُحيطين الإقليمي والدولي لا غنى عنها لتحصين التحول السوري وتعظيم فرص نجاح عملية التحول الانتقالي. فالعالم معني الآن بنجاح تجربة التحول لحسابات واعتبارات مُختلفة خاصة به.
تُظهر الرسائل الإيجابية التي أبدتها الإدارة الجديدة في سوريا تجاه المُجتمعين الإقليمي والدولي الحنكة المطلوبة لطمأنة الخارج بأن سوريا الجديدة يُمكن أن تُشكل قيمة كبيرة للعالم
لقد راهن الأسد بدهاء على مصالح الخارج في سوريا واستطاع توظيفها لإطالة عمر نظامه خلال الحرب. لكن سوريا الجديدة قادرة أيضاً على استثمار هذه المصالح بحنكة بالغة لتحفيز المجتمع الدولي على الوقوف إلى جانبها. وحقيقة المكانة الجيوسياسية الحساسة التي تتمتع بها سوريا تُعزز من اهتمام الخارج بها الآن أكثر من أي وقت مضى. وفي ضوء ذلك، تُظهر الرسائل الإيجابية التي أبدتها الإدارة الجديدة في سوريا تجاه المُجتمعين الإقليمي والدولي الحنكة المطلوبة لطمأنة الخارج بأن سوريا الجديدة يُمكن أن تُشكل قيمة كبيرة للعالم بعدما عزلها نظام البعث عن الخارج وحوّلها إلى مُصدّر لحالة عدم الاستقرار في المنطقة.
من بين الاختبارات السريعة، التي واجهتها سوريا الجديدة، التحركات العسكرية الإسرائيلية المثيرة للقلق والريبة بعد الإطاحة بنظام الأسد. وقد أظهرت الإدارة الجديدة بوضوح أن أولويتها الراهنة تتمثل في العبور نحو الدولة الجديدة وتجنب الوقوع في فخ تشتيت الأولويات. كما أن التفاعل الإيجابي مع الخارج يُشكل وسيلة أكثر فعالية للتعبير عن مصالح السوريين فيما يتعلق بالمطامع الإسرائيلية. وأظهرت الإدارة الجديدة حنكة في مخاطبة روسيا وتبني منطق الدولة في مقاربة مستقبل الوجود العسكري الروسي في سوريا. ففي نهاية المطاف، فإن إظهار هذا المنطق لا يُساعد سوريا الجديدة في تقديم نفسها كصديق مُحتمل لروسيا بعد هذا التحول فحسب، بل يُقلص من مخاطر وقوع سوريا مرّة أخرى ضحية التنافس العالمي في الشرق الأوسط. ومن بين الفرص الكبيرة التي يُقدمها التحول السوري أن مختلف القوى الفاعلة الإقليمية والدولية ليست لديها مصلحة في فشل العبور السوري نحو الدولة الجديدة. وتُشكل هذه الحقيقة نُقطة ارتكاز لتشكيل السلطة الجديدة في سوريا علاقات مرنة وودية مع الخارج.
مع ذلك، من المهم إدراك أن مسؤولية العبور نحو سوريا الجديدة مُلقاة بدرجة أساسية على عاتق السوريين أنفسهم لأنهم وحدهم من يُقررون الكيفية التي يُريدون بها تشكيل الجمهورية الجديدة ويستطيعون فرض رؤيتهم على الخارج. وهنا تبرز أهمية توفر خمسة عوامل رئيسية في إدارة التحول الانتقالي. أولاً، توفير إجماع وطني شامل عبر انخراط مُختلف مكونات الشعب السوري السياسية والدينية والإثنية في عملية تشكيل مستقبل سوريا بعد آل الأسد، وثانياً، تحديد معايير واضحة لهذه العملية تقوم على المواطنة وتأسيس نظام سياسي جديد يرتكز على جوهر الديمقراطية والحياة السياسية النظيفة، وثالثاً، الاستفادة من بقايا مؤسسات الدولة التي تركها الأسد وإعادة تشكيلها وفق معايير الكفاءة. ورابعاً، العدالة الاجتماعية التي تضمن محاسبة المسؤولين السابقين على الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري خلال سنوات الصراع. وخامساً، مخاطبة العالم بصوت واحد للتأكيد على حاجة سوريا إلى استعادة سيادتها على كل أراضيها وإخراج القوات الأجنبية الموجودة فيها.
إن الانخراط الوطني الشامل في عملية التحول الانتقالي يُضفي مشروعية داخلية على عملية التأسيس للنظام السياسي الجديد
إن توفر هذه المُحددات الخمسة لبناء سوريا الجديدة يبدأ أولاً من احتكار القوة بيد السلطة لأنها ركيزة أساسية من ركائز شرعيتها. ويتم ذلك من خلال صياغة رؤية تعمل على حل جميع الفصائل المسلحه ودمج مقاتليها في المؤسسات العسكرية والأمنية بعد إعادة تشكيلها. وبالنظر إلى أن العديد من هذه الفصائل تحظى برعاية ودعم من جانب الدول المنخرطة في الصراع،. فإن التفاعل الإيجابي مع هذه الدول يُساعد في توفير الظروف المناسبة لإنجاح هذه العملية. ويبرز الوضع الاقتصادي كعنصر ضاغط بقوة على عملية التحول الانتقالي. لكنّ تحديد السلطة الجديدة لنهج واضح في إدارة التحول الانتقالي يُساعد في إزالة هذه العقبة ويضمن انخراطاً إقليمياً ودولياً إيجابياً في تقديم المساعدات الاقتصادية لسوريا وإخراجها من عزلتها. علاوة على ذلك، فإن الانخراط الوطني الشامل في عملية التحول الانتقالي يُضفي مشروعية داخلية على عملية التأسيس للنظام السياسي الجديد. لقد تسبب حكم البعث في إضاعة فرص أكثر من خمسة عقود على سوريا. لكنّ اللحظة الراهنة يُمكن أن تُعوض هذه الفرص إذا ما ارتكزت على المُحددات الخمسة.
المصدر: تلفزيون سوريا