محمد أمين الشامي
أجمل ما في التَّسجيلات المصوَّرة أنَّها تعيد الحدث إلى مرحلته الجنينية، و ترسم بسمة ما قبل الحزن بغصَّةٍ، و تدفع بالذِّكريات إلى أولى منصّات الحنين، الَّتي انطلقت منها على شكل باقةٍ من أحلام. لكنَّها، أيضاً، تعيد النَّبض إلى الجراح، فتبقيها نديةً.
أتأمَّل في الوجوه… وجوهٌ غاب أصحابها خلف دخان القيامة، و ضاعت أسماؤهم بين زحام جثث القيصر، و درست آثارهم تحت لوعات المكان، خلا تسجيلاً هنا، أو صورةً هناك.
منذ بدأ وهج الثَّورة يخبو لصالح القعقعة الكاذبة، والاتِّفاقات المشبوهة، والمصالح المفضوحة، والقوافل الخضر، ويطغى عليه نقيق الضَّفادع، وأنا أداوم على مشاهدة فيديوهات الأيام الأولى لهذه الثَّورة الجميلة، أيام البراءة، و التطهُّر، والنَّقاء، كي أبقي بعضاً من جمري على قيد السَّعير.
استوقفني تسجيلٌ مصوَّرٌ لفدوى سليمان و عبد الباسط الساروت، في حيِّ الخالديّة بمدينة حمص، وهما يردِّدان قسم الثَّورة مع أهالي ذلك الحي. و لمن فقدت ذاكرته بوصلتها، هذا قسم الثَّورة، و لمن نسي فدوى و الساروت، وعشرات آلاف المردِّدين للقسم، في حمص و غيرها، من المدن الشهيدة، أذكِّرهم به، و لهم أن يعودوا إلى الذِّكرى مسجلةً، إن مازال للذِّكرى مكانٌ لديهم في زحام الذّاكرة:
أقسم بالله العظيم
أقسم بالله العظيم
أقسم بالله العظيم
أن نكون يداً واحدة في وجه كل من أراد لأهلنا ووطننا سوءاً،
وأن نرمي خلافاتنا وراء ظهورنا،
وأن نحمي أعراضنا و نساءنا وأطفالنا
بدمائنا و أرواحنا،
و ألا ننسى ما حيينا دم شهدائنا،
و على هذا العهد باقون بإذن الله.
و الله على ما نقول شهيد
و أنا أتابع التَّسجيل، داهمني سؤال: هل يقسم أعضاء الائتلاف و الحكومة المؤقَّتة، الوطنيّون جداً، الثَّوريون حكماً، أيّ قسمٍ، وقت تولّيهم المناصب؟ هل يقسمون قسم ثورتنا هذا، أم عندهم قسمٌ خاصٌّ بثورتهم؟ جهدت في إيجاد أيِّ مقطعٍ لمسؤولٍ منهم، شمعيّاً كان، أو طيفياً، يؤدّي القسم، لكن عبثاً حاولت.
فدوى كانت حقيقية… و الساروت كذلك… و أهل الخالدية، و مدينة حمص، وكلُّ المدن الشَّهيدة والشّاهدة على أداء القسم، كلُّ هذا كان حقيقياً لا يمكن إنكاره، و كلُّ حقيقيٍّ صار ذكرى، أثراً بعد عين… فدوى ماتت غريبةً… حيُّ الخالدية تدمَّر… أهل الخالدية بين شهيدٍ و معتقلٍ و مشرَّدٍ و معطوبٍ… الساروت غائبٌ… والمدن كما تعرفونها شوَّه وجهها شذّاذ الآفاق.
كلُّ من كان حقيقياً، وأدّى القسم، ناله نصيبٌ من الشرف، ومن الإبادة، أو التَّغييب أيضاً، ليبقي طرفان، هما الطّارئان على الزَّمن بأبعاده، وجغرافيا الحلم… الائتلاف والحكومة المؤقَّتة، بأعضائهما البزّاقية، و اللّاصقة أبداً على الكراسي من جهةٍ، والنِّظام وزبانيته، المنسجمون و الجاثمون على الكراسي و الصُّدور دوماً، من جهةٍ أخرى، طرفٌ باسم الضَّرورة الثورية، وآخر باسم الأبديّة الحتميّة…
أيُّ قدرٍ …
بقيتم أنتم، أيُّها السّادة، و النِّظام و من معه، لتحقِّقوا، معًا، سوريَّة “العالم العالم”، حسب فلسفة النَّمر، والمجتمع المنسجم، والدَّولة المفيدة، حسب فلسفة الأسد.
لعلمكم، لم يبق متفرجون…
فكلُّ من توجَّهت إليه المسرحية مضى…
ولم يبق ضوءٌ… فالأضواء أطفئت، ولا بد أن ننتظر الصُّبح، أليس الصبح بقريب؟
فكيف، بعد كلِّ هذا، لا تلملم الثورة حريَّتها، و كرامتها، و ترحل، و قد خنقتموها تدليساً، أو تنتفض وتنفضكم عنها؟ و كيف لا يلجأ من بقي من الشَّعب إلى صحارى الرمل، و الجليد، وقد أشبعتموه تمثيلاً، أو ينهي مسرحيَّتكم؟
هل علمتم الآن لم لا يؤدّي أعضاء الفريق التَّمثيلي الرَّسمي القسم على الملأ؟ لأنَّهم افتراضيون… نعم، افتراضيون… بلا جرحٍ، بلا دمٍ، مجرَّد تماثيل شمعيةٍ باردةٍ و حسب.
نذكر السَّادة القرّاء أنَّ الكلام السّابق موجّهٌ إلى كلِّ من ركب ظهر الثَّورة غصباً، وقبض الثمن و أحسبهم قلّة! أو لعلَّهم كانوا كثرة… أكثر ممّا نتصوَّر بكثيرٍ.