محمود الريماوي
سمحت حرب الإبادة التي يشنّها بنيامين نتنياهو على قطاع غزّة باستخلاص درس أساسي، مفاده بأن المراكز الدولية في عالمنا إما تقف إلى جواره في حربه التي تنتهك كل القيم والقوانين، وتمدّه بالسلاح والدعم المالي، او أن هذه المراكز تكتفي بردود فعل باهتة، لا تبلغ أبدا حد الدعوة إلى فرض عقوبات، باستثناء عواصم أوروبية، مثل مدريد وأوسلو، وأخرى قليلة في غير عداد العواصم الكبرى. استعاد نتنياهو هذا الاستخلاص، حين سارع إلى استغلال التغيير في سورية، واعتبر اتفاق الهدنة لعام 1974 منهاراً، وتوغلت قواته في المنطقة العازلة، وأتبع ذلك بالوصول الى قمم جبل الشيخ، وليس انتهاء بالتغلغل في ريف جنوب درعا بعمق تسعة كيلومترات. وقد أبدى سعادته لهذا الإنجاز، مشدّداً على أن القوات الغازية ستبقى على قمم جبل الشيخ حتى نهاية العام المقبل (2025) على الأقل. وقد أثار هذا التطور القليل من ردود الأفعال، فالاهتمام الأميركي والغربي يتمحور حول مجرى التحوّل في دمشق، وانتظار الضمانات التي سيمنحها القادة الجدد في دمشق لحقوق “الأقليات”، وما يسميها الغرب حقوق الإنسان عامة.
وقد لوحظ أن الحرب التي شنتها دولة الاحتلال على القواعد والمطارات العسكرية في سورية لم تُثر رد فعل يذكر، ما حفّز تل أبيب على القيام بالتوغلات التي تمثل تحدّياً جسيماً للسلطة الجديدة غير القادرة بالفعل، في الظرف الحالي، على خوض صراع عسكري، وفي وقت لم تشهد فيه المؤسّسات السيادية بعد إعادة هيكلة وإعادة بناء لها. وسوف تشكل هذه التوغلات تمدّداً لاحتلال الجولان القائم منذ 1967. وقد اعترف دونالد ترامب في رئاسته الأولى للولايات المتحدة بضم الهضبة السورية إلى دولة الاحتلال، وهو موقف لم تشاطره إياه أية دولة أخرى. ويراهن نتنياهو بأن الرئيس العائد إلى البيت الأبيض في 20 الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني) سوف “يتفهم” الدواعي الأمنية المزعومة للتمدّد الإسرائيلي في الأراضي السورية. ولن يكون مستبعداً بعدئذٍ أن يجري استخدام هذا التمدّد وسيلة ضغط على النظام الجديد في مقبل الأيام، بحيث يكون رفع العقوبات عن سورية مشروطاً بإبرام تفاهماتٍ سوريةٍ إسرائيلية حدّاً أدنى، فيما يرتسم الهدف الأبعد بالضغط على دمشق لإبرام اتفاق هدنة جديد قابل للتوسيع نحو عقد اتفاق سلام بين دمشق وتل أبيب، وهو ما يتفق مع مطامح ترامب بتوسيع دائرة السلام العربي الإسرائيلي، وفقاً للاشتراطات الإسرائيلية المقبولة أميركياً.
شيء شبيه بذلك يجري على الأراضي اللبنانية، إذ إن اتفاق وقف إطلاق النار الذي جرى برعاية أميركية فرنسية بين تل أبيب وبيروت، ينظر إليه الطرف الإسرائيلي اتفاقاً لخفض التصعيد، وليس وقفاً فعليا لوقف النار، فالتعدّيات الإسرائيلية لا تتوقف في مناطق مختلفة من لبنان، بما فيها العاصمة، وبدعوى أن الاتفاق لم ينصّ على سحب فوري القوات، بل على انسحاب تدريجي يتم خلال 60 يوما. وتستغل تل أبيب فترة الشهرين هذه لمواصلة الغارات الجوية على مناطق مختلفة، والأسوأ مواصلة تجريف بلدات وقرى في جنوب لبنان، وبما يهدّد بتوسيع المنطقة العازلة، ومواصلة تموضع القوات الغازية فيها بعد انقضاء الفترة بسطوة الأمر الواقع العسكري.. وعلى لبنان، بعدئذٍ، السعي إلى تفاهمات جديدة مع تل أبيب، بتشجيع من إدارة ترامب الحريصة على استتباب الأمن.
يمضي نتنياهو في صياغة شرق أوسط جديد كما يراه، وكما بشّر به
يستخدم نتنياهو الدواعي الأمنية المزعومة وحقّ المستوطنين في العودة إلى مناطقهم، لتسويغ التوغلات، غير أن الأمر يتعدّى ذلك إلى التمدد والتوسّع والتموضع الجديد للقوات، والاستحواذ على مزيد من الأراضي، وهو ما يحدُث في سورية وحدث في جنوب لبنان. وذلك وسط صعوباتٍ جمّة يعانيها البلدان حالياً في إعادة البناء، وحيث أسهمت دولة الاحتلال بصورة ملحوظة في هدم قدرات البلدين، وبحيث يواجه لبنان احتلالاً جديداً يضاف إلى أراضٍ محتلة سابقا في منطقتي مزارع شبعا وتلال كفر شوبا، أما سورية فعليها، وفق الاستهدافات الإسرائيلية، أن “تنسى” الجولان المحتل، وتجري تفاهمات على ما استجدّ من أراضٍ محتلة.
وواقع الحال أن هذا الجموح الإسرائيلي إزاء دول المنطقة قد بدأ في قطاع غزّة، وحيث اختارت عواصم عربية عديدة النأي بالنفس عما يجري هناك منذ 14 شهراً، فقد أريد بحرب الإبادة ليس فقط التصفية المادية للكتلة البشرية في القطاع، بل كذلك التمدّد داخله، في نهاية الأمر، وفي شماله بالذات، من أجل توسيع ما يسمّى غلاف غزّة، ويختلف أركان حكومة الاحتلال بشأن المدى الذي سوف يعملون على الاستحواذ عليه، لكنهم متفقون على أن جغرافية القطاع لن تُترك كما هي، بالرغم من صغر مساحتها نسبة إلى عدد سكانها، وبحيث يشكّل الاستيلاء على جزء من مساحة القطاع عامل ضغط شديد لخروج نسبة من أبنائه في “هجرة طوعية” إلى الخارج. وهذا ما نراه يتكرّر في الأراضي اللبنانية والسورية، مع فارق أن الاستيلاء على الأرض وعلى مواقع استراتيجية فيها يمثل الهدف الأساس لحكومة نتنياهو في البلدين.
بهذا يمضي نتنياهو في صياغة شرق أوسط جديد كما يراه، وكما بشّر به، بحيث تنفرد دولة الاحتلال بالتمدّد والتوسّع في الشرق العربي، من غير أن تسمح لإيران بمقاسمتها النفوذ والهيمنة في هذه المنطقة، ومن غير السماح بولادة كيان فلسطيني مستقل على الأراضي المحتلة عام 1967، ولا يتورّع نتنياهو، بعدئذٍ، في غمرة حروبه المسعورة على سورية ولبنان وغزّة والضفة الغربية، عن الادّعاء بمدّ يده للسلام مع دولة عربية كبيرة مثل السعودية.
المصدر: العربي الجديد