عبد الجبار عكيدي
لم يكن اختراق دولة الكيان الصهيوني، الأسبوع الماضي، اتفاقية فكّ الاشتباك (1974) أمراً طارئاً أو جديداً، إلّا أنه جاء في سياقات مرحلية مختلفة، وفقاً لأولويات السياسة الإسرائيلية وحاجاتها الأمنية بالدرجة الأولى. وليس من حاجةٍ إلى التأكيد أن حدود إسرائيل الجنوبية كانت، في الشطر الأول من الحكم الأسدي (1974- 2000)، الأكثر أمناً واستقراراً، وقد أسهم التزام الأسد الأب بالحراسة الصارمة للتخوم الإسرائيلية بتعزيز تلك الحالة من الهدوء والاستقرار.
ولم يكن الوريث الأسدي أقلّ حرصاً من والده على الالتزام بأن تبقى حدود إسرائيل محميّةً من أيّ خطر، سواء أكان مباشراً أم غير مباشر، بل ربّما أضحى هذا الالتزام الصارم بالحفاظ على أمن الحدود منهجاً استراتيجياً يعزّز مفهوم “اللاسلم واللاحرب”، الذي اعتمده نظام الأسد جوهراً لمعادلة استطاع نظام دمشق استثمارها في مدى عقود، وقد استطاع أن يجعل من هذا الاستثمار مصدرَ طاقةٍ وشحناً لمقولات المقاومة والممانعة من جهة، واستطاع أن يجعل منه أيضاً شهادةَ حسن سلوك يبرزها للجانب الإسرائيلي، من جهة أخرى.
لم يتردد نظام الأسد، في مارس/ آذار من عام 2011، ومع انطلاقة الثورة السورية، في تحديث استثمار الورقة الإسرائيلية، ولو عبر قنوات غير رسمية، المهمّ أن تسمع إسرائيل وتعي أن زوال نظام الأسد سيترك تداعيات كبيرة، لعلّ أشدّها خطراً زوال الحصانة الأمنية، التي كان الأسد يوفّرها لحدودها الشمالية، وربّما كانت الرسائل مقنعة لإسرائيل آنذاكٍ، وفقاً للعبارة الإسرائيلية المشهورة “شيطان نعرفه خير من شيطان لا نعرفه”، ولعلّ أبرز التجلّيات العملية لهذه المقولة تجسّدت في صفقة السلاح الكيميائي التي هندسها الرئيسان الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين، في سبتمبر/ أيلول من عام 2013، وذلك في أعقاب استهداف قوات الأسد سكّان الغوطة الشرقية بالسلاح الكيميائي في أغسطس/ آب من العام ذاته، وقد كانت تلك الصفقة مكافأةً لنظام دمشق، ومساهمةً في الحفاظ على استمراره.
تسعى إسرائيل لبقاء سورية بلداً مهلهلاً ضعيفاً بلا أنياب، بعدما أنجزت هذا الهدف ذاته في العراق بعد
مع أواخر عام 2015، وموازاةً مع توغّل مليشيات إيران وحزب الله في عمق الجغرافيا السورية، مع المسعى الإيراني نحو تحويل تلك الجغرافيا مسرحاً ميدانياً، وثكناتٍ عسكريةً، ومواقعَ لتجمّع المليشيات، ومنشآتٍ لتصنيع الصواريخ والقاذفات، بدأ التوجّس الإسرائيلي واضحاً من ازدياد نفوذ إيران وأذرعها على حساب انحسار سلطة الأسد، نتيجةً للتغوّل الإيراني في مفاصل القرار السوري سياسياً وعسكرياً وأمنياً، الأمر الذي دفع إسرائيل إلى استهدافٍ يكاد يكون شبه يومي، لمطاردة مليشيات إيران واستهداف مواقعها في مدن وبلدات سورية عديدة، مع التأكيد أن الاستهداف الإسرائيلي المتكرّر لا يعني حرباً إسرائيليةً مفتوحةً على أذرع إيران، بقدر ما يعني منع إيران من تجاوز الخطوط الحمراء، أو ما هو مسموح لها. وقد لعبت روسيا دور المنسّق للتفاهمات الإسرائيلية الإيرانية، باعتبار الأجواء السورية تحت الحماية الروسية، ويمكن القول إن ثمّة تفاهماً (صريحاً أو ضمنياً) بين إسرائيل وإيران على الإقرار بأحقّية الوجود الإيراني في سورية، شرطَ ألّا يتحوّل هذا الوجود خطراً يهدّد أمن إسرائيل، ويجب أن يبقى أثره محصوراً ضمن مهامّه التي جاء من أجلها، أي حماية نظام الأسد، وربّما كان هذا التخادم بين طهران وتلّ أبيب حائلاً دون استهداف إسرائيل أيّ موقع سوري، وتحاشي الطيران الإسرائيلي أيَّ هدف تابع لقوات الأسد.
كانت لعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023) تداعيات كبيرة على استراتيجية التخادم بين طهران وتلّ أبيب، استناداً إلى تحوّل سلاح حزب الله جبهةَ إسناد لغزّة، وفقاً لشعارات إيران وأذرعها، الأمر الذي أسهم في تجاوز تلّ أبيب مفهوم التخادم المشترك مع طهران، بل بات استهداف إيران وأذرعها لا يُجسِّد مُجرَّد ردعٍ لتمدّد مليشيات إيران في داخل سورية أو عدم السماح لها بإنشاء مواقعَ جديدةٍ، بل تحوّل حرباً مفتوحةً بدأت باستهداف قيادات حزب الله وكوادره البشرية البارزة، واستمرّت بتدمير بنيته العسكرية، ولم تعد إسرائيل تستثني أذرع إيران في سورية، بل ربّما باتت قناعة إسرائيل أكثر رسوخاً بأن إبعاد نفوذ إيران من سورية مع بقاء الأسد ضربٌ من العبث. ولعلّ هذا اليقين كان جزءاً من عملية رفع الغطاء الدولي عن نظام دمشق، باعتبار الأسد عبئاً على الجميع، ولا أحد سيأسف على رحيله.
تكون إسرائيل مخطئةً، بل واهمةً، إن ظنّت أن تجريد أصحاب الأرض والحقّ من السلاح سيضمن سكوتهم عن العدوان
ولئن تذرّعت إسرائيل طوال السنوات السابقة بوجود مليشيات إيران في سورية، واتّخذت من وجودها مبرّراً لاستباحتها المستمرّة للجغرافيا السورية، فما الذي يدفعها إلى تصعيد عدوانها على سورية بعد زوال رأس النظام، وانحسار نفوذ المليشيات من الجغرافيا السورية؟ ما يمكن تأكيده أن مواظبة إسرائيل على عدوانها، واستهدافها البنية العسكرية السورية، وتوغّلها البرّي في العمق السوري هو جزء من نهجها الثابت، القائم على التوسّع الاستيطاني، والاستغراق في العربدة، واستمراء التنكيل بخصمها العربي، بعيداً عن التقيّد بزمان محدّد. ومع ذلك، يمكن الوقوف عند بعض الأهداف التي تبحث إسرائيل عن تحقيقها في سورية، ولعلّ أبرزها:
أولاً، حالة عدم الاستقرار الراهنة التي أعقبت زوال الأسد، تتيح للجانب الإسرائيلي الانقضاض على البنية العسكرية السورية بقصد تدميرها تدميراً كاملاً، ونظراً لغياب رادع القوة، فإن تلّ أبيب تزداد صلفاً وعدوانية، فتتوغّل برّياً داخل الأرض السورية وتقصف البلدات والقرى التي تشاء، وذلك بذريعة حماية أمن إسرائيل. ثانياً، أيّ تقدم تحقّقه إسرائيل في الأرض قد تفكر في ادّخاره ورقةً رابحةً في تفاوض مستقبلي مُفترَض. ثالثاً، بقاء سورية بلداً مهلهلاً ضعيفاً بلا أنياب، هدف تسعى إسرائيل لتحقيقه، بعدما أنجزت هذا الهدف ذاته في العراق ما بعد 2003.
على الرغم من ذلك، تكون إسرائيل مخطئةً، بل واهمةً، إن ظنّت أن تجريد أصحاب الأرض والحقّ من السلاح سيضمن سكوتهم عن العدوان، ولها في أهل فلسطين مثال شديد الوضوح، إذ لا يملك الشعب الفلسطيني داخل أرضه سلاحاً ثقيلاً، كذلك يفتقر كثيراً إلى مقوّمات عيشه الكريم، ولكنّه على الرغم من ذلك يقضّ مضاجع الإسرائيليين كلّ يوم، وهو لا يملك سوى احتجاجاته في وجه العدوان، بدليل أن السلاح الثقيل بيد العرب لا يثير مشكلةً لدى واشنطن، بقدر ما يثيرها حراك الشارع الفلسطيني وانفجاراته التي لا تهدأ.
المصدر: العربي الجديد