أسامة عثمان
بالرغم من تحوّلات القائد الأعلى لهيئة تحرير الشام أحمد الشرع، إلّا أننا لا نستطيع إغفال خلفيّته الفكرية الدينية، فهو آتٍ من فكرتي تحكيم الشريعة، والدولة الإسلامية. لكن هذه “الدولة الإسلامية” هي دولة أوّلاً، لتكون قادرة على اختيار الدستور والقوانين الناظِمة للمجتمع وللعلاقات الخارجية، فلا بدّ أن تستند إلى سلطة، والسلطة هنا ليست مُجرَّد القوّة المادية، وإنْ كانت تلك القوَة ركيزتها الأساسية، وصُلْبها، وهي التي ميّزتْ أحمد الشرع (وتميِّزه اليوم) من سائر القوى السياسية الطامحة إلى المشاركة في إعادة بناء سورية، وتوجيه هُويَّتها، وأحدَث الدلائل على تفوّقه الواقعي نجاحه في قيادة الفصائل المسلَّحة، وحملها على الانضواء تحت المؤسّسة العسكرية للدولة، إذ توصَّل إلى اتفاق مع قادة الفصائل الثورية، حلَّت نفسها بموجبه، واتُّفِق على دمجها تحت مظلّة وزارة الدفاع، وهو ما يُعزِّز سلطته الفعلية، ويترك انطباعاتٍ ثقة وارتياحاً أكبر (في الداخل والخارج) بأن البلد ينتقل من الثورة إلى الدولة، ومن احتمالات الاختلاف والتنازع إلى مسارات التنظيم ووحدة المرجعية.
ولا يخفى على متابع أقوال أحمد الشرع وأفعاله تخلّيه عن الاعتبارات الخاصّة لصالح اعتبارات أوسع تتماهى (أو تُقارِب كثيراً) مع الحالة السورية العامَّة بتنوّعها الفكري والاجتماعي، وبمكوِّناتها وانتماءاتها المختلفة، تحت الانتماء الوطني الأعلى. والسؤال: إلى أيّ مدى يستطيع الشرع الاتساق مع خلفيته الدينية، التي تفترض أولوية الشريعة على سائر الشرائع الوضعيّة؟… في هذا السياق، نلحظ آليّة الاحتواء، التي ظهرت في صيرورة هيئة تحرير الشام، تشكيلاً ثورياً يتألَّف (ثمّ يتآلف) من خمسة فصائل سورية ثورية هي جبهة فتح الشام، وحركة نور الدين زنكي، ولواء الحقّ، وجبهة أنصار الدين، وجيش السنّة. كانت أوضح علامات التحوُّل أن الهيئة لم تُعلِن بشكل رسمي تبنّي خطٍّ أيديولوجي واضح، بل حرصت على التأكيد أنها كيان مستقلّ لا يمثّل امتداداً لتنظيمات وفصائل سابقة، وأن تشكيلها يمثّل خطوةً ذابت فيها جميع التسميات، وطُوِيت فيها جميع الخلافات. وهذا التخفُّف الأيديولوجي استدعته أولويةُ إسقاط نظام الأسد.
مستفيداً من درس الإخوان المسلمين في مصر يبدو أحمد الشرع ماضياً إلى مسافة أبعد في الدولة المدنية
وبالرغم من الفارق في درجة التبايُن بين مكوِّنات الهيئة من جهة، والمكوِّنات السورية بأحزابها وطوائفها وأديانها، من الجهة الأخرى، إلّا أن إدراك الشرع لمعنى الدولة يحمله على القبول بمتطلّبات احتواء أكبر، يستبقي من الإسلام (بحسب فهمه وتفسيره)، القواعدَ الأولى أو الأولويات الضرورية. وفي الإسلام، بحسب فقهاء مُعتبرَين، مقاصدُ عامّة؛ حِفْظُ الدِّين والعقل والنسل والمال والنفس، كما أنه لا بدَّ أن يُسترشَد بشرط القدرة والاستطاعة، وهو شرط كُليٌّ حاكم تندرج تحته قابليةُ المجتمع، والظروفُ الدولية والإقليمية، وإلحاحُ الحاجات الإنسانية والاجتماعية من ضروريات الحياة الأولية، بتوفير الطعام والأمن والمسكن والعلاج وغيرها.
وما دام أحمد الشرع قد مضى في طريقه نحو الحكم، بـ”واقعية”، فلا بدّ أنه يعي تجارِب حُكم الإسلاميين في المنطقة العربية، ولعلّ أبرزها تجربة الإخوان المسلمين في مصر، حين تضافرت عوامل خارجية وداخلية على إسقاط الرئيس السابق محمّد مرسي، ثم تقبّل العالمُ الحاكمَ المُنقلِب، عبد الفتّاح السيسي، وغضّت الدول الفاعلة (في رأسها أميركا)، الطّرف عن الثمن الباهظ الذي توسّله للقضاء على حُكم “الإخوان” في مجزرة رابعة (14 أغسطس/ آب 2013)، التي راح ضحيّتها، وفق منظّمة هيومن رايتس ووتش، أكثر من ألف قتيل، مع الأخذ بعين الاعتبار الجثث مجهولة الهُويَّة والمفقودين وشهادات الناجين.
ومع أن الجيش في سورية لم يعد يحوز تأثيراً كتأثير الجيش في مصر، ومع أن التقبّل الشعبي للتخلُّص من نظام بشّار الأسد يمثّل رصيداً لا يُستهان به لصالح الشرع، والفصائل التي شاركت في تفكيك نظام الأسد، إلّا أنه لا التفاف شعبيّاً وحزبيّاً حاسماً حول هيئة تحرير الشام، لأصولها ومنابتها الفكرية ذاتها. لهذا الدرس المستفاد من تجربة “الإخوان” في مصر، يبدو الشرع ماضياً إلى مسافة أبعد في الدولة المدنية، والظاهر أنه يستضيء بالنموذج التركي الأردوغاني في الحُكم في الفحوى، وليس بالضرورة في المطابقة التامّة، والوضوح العَلماني الراسخ، وهو الأمر الذي لم تستجيزه جماعة الإخوان في مصر.
ينقاد الشرع للأعراف الجارية، ليحوز فرصةَ اجتراح نتائج عملية فارقة، بفريق حُكمٍ من مُقرَّبيه، يكون نجاحُهم المأمول أكبرَ الأرصدة
ويمكن القول إن الشرع (والفصائل والقوى المتحالفة معه)، يهمُّه أنْ يفارق (وأن يبدو مفارقاً)، الفكر الجذريّ الانقلابيّ، وأنه بقدر الإمكان يحاول أن يستبقي ما يمكن استبقاؤه من اعتيادات الحياة السورية، في مفاصلها المُتعدِّدة، في الدولة وفي المجتمع، وفي التنظيم الداخلي، وفي جوهر العلاقات الخارجية، في ما يتعلَّق بالاحتكام إلى القانون الدولي، والتواضُعات العربية الرسمية والإقليمية، من دون أن يعني ذلك الحفاظ على تحالفات النظام السابق، كالعلاقة الخاصّة بإيران. فهو سائر نحو دولة عادية تقترب (بصفة عامّة)، من تصفير الأزمات مع المحيط ودول العالم، حتى مع روسيا، التي كان لها الفضلُ الأكبر في إطالة عُمْر نظام الأسد ومنحه مزيداً من الفرص للإجرام الفظيع بحقّ شعبه وبلده.
وفي المجمل، وفي عُمْق تكوين الفصائل الثورية السورية، فإن الباعث على تكوين تلك القوى لم يكن الإسلام فكريّاً، وإنْ كان هو في مرحلة من المراحل القوتان التحشيدية والتَّعْبوية، فتلك الفصائل ذات الطابع الإسلامي كانت ردَّة فعلٍ على ظلم نظام الأسد وعطالته، فهي كيانات أفرزتها ثورةُ الشعب السوري، كما أفرزت غيرَها من خلفيات فكرية مغايرة، وعنوانها الجامع التخلُّص من الأسد واسترداد البلد والشعب.
وعلى ذلك، ينقاد الشرع في هذه المرحلة الانتقالية ليقود؛ ينقاد للأعراف الجارية داخلياً وخارجياً، ليحوز فرصةَ اجتراح نتائج عملية فارقة، بفريق حُكمٍ من مُقرَّبيه، يكون نجاحُهم المأمول في هذه اللحظة المتوهّجة من تاريخ سورية أكبرَ الأرصدة، وأجلب دواعي الثقة الواسعة.
المصدر: العربي الجديد