د- عبد الناصر سكرية
إن التضحيات الجبارة التي قدمها الشعب السوري للخلاص من النظام والقدر العالي جدا من الثبات والإصرار على هدفه المركزي هي التي أجبرت القوى الدولية على تسهيل التخلص من النظام لأنه أصبح عالة عليها فقد استنفذ كل إمكانيات البقاء وتنفيذ المهمات المطلوبة منه ؛ وغير قادر على ضبط الامور كلها أو بعضها حتى مؤيديه وجماعات نظامه ، منصرفا إلى تكديس الثروات في جيوب القلة القليلة الفاسدة المتخلية عن أي هم وطني.. لكن هذا لا يعني أن الاطراف الدولية – سواء التقت مصالحها كليا أو جزئيا – تضع مصلحة الشعب السوري أولا وفوق كل إعتبار..وفي حالة إلتقاء بعض المصالح الدولية مع بعض مصلحة الشعب – جزئيا أو آنيا عند نقطة محددة واحدة هي إسقاط النظام الاسدي – تكون الفرصة مؤاتية للتغيير..وهذا ما حصل..إلا أن إفتراقا حتميا سوف يحصل مباشرة ليعود كل طرف للعمل وفق مصالحه فقط..هنا توجبت العودة إلى نقطة الإنطلاق مما يستدعي يقظة الشعب السوري ومشاركته في مؤسسات شعبية منظمة متكاملة لفرض مطالبها وتحقيق آمالها التي ضحت لأجها كثيرا..
إن ألف باء الحديث في مآلات الوضع الراهن في سورية ؛ هو إدانة النظام الساقط وتحميله مسؤولية كل ترد وكل إنهيار وكل إستباحة تعرضت لها أرض سورية من قبل قوة إقليمية أو أجنبية..إن سياسة التخلي عن كل مقومات السيادة الوطنية وضرورات الدفاع عن الأرض والشعب والوطن والتي كانت من ثوابت النظام الساقط هي التي أوصلت سورية إلى ما هي عليه من مآزق وأزمات متنوعة وما فيها من تدخل أجنبي وأطماع دولية خطيرة تهدد أمن سورية ومستقبلها ومصيرها..
إن إستباحة النظام الساقط لحرمات وقيم ومقومات وحقوق الشعب السوري هي التي تركت سورية ساحة مفتوحة لكل قوة طامعة خبيثة مشبوهة ولأجهزتها التجسسية..الأمر الذي إدى إلى فقدان الوطن لأهم أسس مناعته وقوته الذاتية وقدرته على ردع كل عدوان من إية جهة أتى..
وليس يخفى على أحد أن أوضاع سورية تواجه تحديات واخطارا كبيرة بما تحمله من إحتمالات مفتوحة على عدة إتجاهات ، بعضها يمكن توقعه وبعضها مجهول ويدخل في مدى معرفة حسابات القوى الخارجية المؤثرة والفاعلة والمتداخلة في سورية ..إحتمالات قد لا يكون بمقدور الشعب السوري منفردا مواجهتها والتغلب عليها لا سيما في غياب رؤية عربية موضوعية تدرك أهمية حماية سورية من التدخلات والوصايات الخارجية حفاظا على أمنها الوطني والذي يشكل شرطا ضروريا وأساسيا للامن العربي العام..
إن تفتيت وحدة الشعب السوري كان ولا يزال مطلبا للمشروع الإستعماري – الصهيوني بكل صيغه القديمة والمتجددة بإستمرار..وهو هدف عمل عليه نظام القمع الساقط بكل جد وإجتهاد بتبنيه وإلتزامه نهجا مذهبيا تعصبيا متقوقعا في إطار مشاعر التحريض والتعبئة المزيفة وإستخدامها لخلق نوع من الهوية غير الوطنية وما تحمله من مشاعر الخوف والجشع والحقد والإنتقام..
كما أن إبعاد الشعب السورية عن اية مشاركة في إختيار مستقبله وبناء مصيره وخياراته الوطنية ؛ كانت سياسة ثابتة للنظام الفار ..فضلا عن أبشع أنواع القتل والتعذيب والإعتقال دون حق او محاكمة أو قانون..
إن الحديث عن مسؤولية النظام الهارب عن تدمير سورية وتهجير أبنائها وتفريغها من قواها البشرية والعلمية والإنسانية ؛ حديث يطول جدا لكثرة ما فيه من إجرام قلما عرفته بلاد أخرى.فهو يكاد يوازي إجرام العدو الصهيوني في القتل والتدمير والإبادة أو ربما يتفوق عليه في بعض الممارسات..
إن إفقاد الجيش السوري من مضمونه الوطني وتزويده بعقيدة نفعية تعصبية ذات خلفية مذهبية تحريضية ؛ هو الذي جعله يقتصر عمله في التصدي للشعب السوري ومطالبه وسكوته أو عدم قدرته على رد أي عدوان صهيوني مجرم وغادر..وما أن هرب راس النظام حتى إنهارت كل مؤسسات الجيش وبناه العسكرية وإختفت من الوجود حتى بات إنقاذ النفس هاجسا لدى افراده من كل المستويات..وليس اللوم على جيش فقد قدراته الوظيفية الوطنية وتحول أداة قمع وتهديد وتجارة وإرتزاق..المسؤولية على رأس النظام الذي أفقده هويته ومناعته وعقيدته القتالية الوطنية..
إن الذين لا يعرفون تفاصيل إجرام نظار الفارين المتخاذلين وعمق معاناة الشعب السوري منه ومن حقده وقمعه ؛ لا يستطيعون فهم عمق وسعة الفرحة العارمة التي تلف شعب سوريا بإسقاط النظام ..
إن إسقاط النظام كان المدخل الوحيد واللازم لإمكانية إعادة بناء سورية جديدة وطنا لكل أبنائه يسوده العدل والمساواة والقانون..
إن التخلص من النظام الساقط وليس من رؤوسه الكبيرة فقط ؛ هو المقدمة الأولى والشرط اللازم لإستعادة الشعب زمام وحدته وقوته وتماسكه وهويته أيضا..
لم يكن بقاء النظام السابق إلا مانعا أكيدا لأي تطور أو تقدم أو تنمية او بناء حقيقي لمستقبل متناسق متحرر لسورية..
إن نشوة الفرح الشعبية العارمة تمثل دليلا أكيدا على حيوية شعب سورية وقدرته على تجاوز أزماته ومواجهة الأخطار والتحديات المتربصة بمسيرته والعاملة على تفريغ التغيير الذي حصل من المضمون الإيجابي التحرري المتكامل..
إن إحتفال السوريين بالتخلص من نظام القهر والقمع لا يعني أنهم غير مدركين لصعوبة المرحلة وتحدياتها وضرورة بذل مزيد من الجهود الوطنية والمشاركة الشعبية لتحقيق هدفين أساسيين إثنين :
# الإول : حماية التغيير من إحتمالات الإنتكاس او الفشل..
# الثاني : إكساب التغيير المضمون الإيجابي الذي يحقق حرية حقيقية ومشاركة شعبية واسعة في بناء المستقبل المنشود..
فهل مثل هذه الأهداف الكبيرة قابلة للتحقق في ظل الظروف الداخلية والمحيطة راهنا ؟؟
إن حجم وضخامة الأطماع الأجنبية بسورية وإمتدادها التاريخي ، لما لها من أهمية إستراتيجية وجغرافية متميزة وجوارها لفلسطين المغتصبة وما فيها من خيرات ومقدرات حيوية ولأهمية تأثيرها ودورها التاريخي في كل بلاد الشام والمشرق العربي ؛ تحد كثيرا من قدرة الشعب السوري في بناء دولته ووطنه كما يرغب ويشتهي..وليس هذا جديدا أو مفاجئا..إن الدور التخريبي لقوى الإستعمار الغربي في سورية يعود لحقب غابرة تصل إلى ما قبل ثلاثة قرون حينما منحت السلطات العثمانية للدول الأوروبية الستة الكبرى آنذاك ، حرية التدخل في شؤون بلادنا تحت حجة حماية الاقليات الدينية فيها ..فكانت بدايات التحريض الطائفي بين المسيحيين والمسلمين..
وما أن إنتهت الحرب العالمية الأولى حتى سارع الحلفاء إلى إحتلال سورية وتقسيمها وإقتسامها ..فسلخوا – سنة 1923 – كل مدنها الشمالية وألحقوها بنظام العلمانية التركي المرتهن لهم : غازي عنتاب وأورفة ومرسين وديار بكر وجزيرة عمر وغيرها ..ثم سلخوا الإسكندرون سنة 1939 ومنحوه لأتاتورك العنصري الحاقد على العرب وعلى الإسلام..
وحينما إشتد الحصار على سورية في خمسينات القرن العشرين من قبل حلف بغداد بزعامة أميركا ؛ سارعت نخبة وطنية من ضباط الجيش العربي السوري للإستنجاد بمصر بقيادة جمال عبدالناصر ، طالبة وبإلحاح شديد الوحدة الفورية مع مصر رغم طلب عبدالناصر التريث لمزيد من التحضير..فكانت الوحدة وكانت أشرس حرب عالمية وإقليمية لفكها وإفشالها فحدث الإنفصال المشؤوم وعاد الغرب الإستعماري – الصهيوني يهدد سورية ويعمل لإحتلالها أو إحتوائها..
كانت تجربة الوحدة بين مصر وسورية وما صاحبها من إندفاع شعبي سوري عارم وعظيم متمسك بها ؛ درسا أفاد بقوة وصلابة الوحدة الوطنية الشعبية في سورية..وتمسكها بإنتمائها القومي وهويتها العربية ؛ الأمر الذي أدركته القوى الإستعمارية ففهمت أنه لا سبيل للسيطرة على هذا الشعب العربي المتماسك العظيم إلا من الداخل : إنهاكه ؛ محاصرته ؛ تفتيته وتغيير عقيدته القتالية الوطنية .. فكانت سلسلة متغيرات أوصلت نظام الأسد إلى السلطة لاداء مثل هذه المهمة فبرع فيها وعمقها فألقى شباك عصبيته المذهبية الإنقسامية على ثقافة وحياة شعب عربي شديد الإعتزاز بعروبته..وكان اخطر ما انجزه النظام الساقط تخريب المجتمع السوري وقلب قيمه ومعاييره الوطنية والإجتماعية والأخلاقية رأسا على عقب..أنهكه فأفقده توازنه وتماسكه ومناعته…ولكن إلى حين..
وكانت القوى الإستعمارية قد أدركت عمق إرتباط الشعب السوري بفلسطين وقضيتها ، من خلال المشاركة الشعبية السورية في حرب 1948 والتضحيات الكبيرة في سبيلها وما تلاها من تلاحم ومشاركات شعبية في أعمال المقاومة والعمل الفدائي والتصدي لعدو الصهيوني..
خلاصة القول أن هذه الأطماع الاجنبية بسورية لا تزال قائمة بل تزايدت وتصاعدت وتنوعت أساليبها فإستقطبت المزيد من الأتباع والمرتزقة والمستفيدين من التبعية لها..ليس في النظام الرسمي فقط بل تعدته إلى فعاليات وجمعيات ونخب إجتماعية وسياسية وثقافية وإعلامية وإقتصادية..حظيت جميعها برعاية أجنبية تامة جعلتها من ذوي النفوذ والتأثير والإمتداد في الواقع بما لا يجعل سهلا التخلص منها وإلغاء تأثيرها ونفوذها..
فتحولت إلى قوة معيقة للتغيير الحقيقي ستعمل على إفشاله أو إفراغه من مضمونه الإيجابي..سيما وان بعضا منها ، قد لا يكون هينا ، لم يكن منتميا للنظام السابق أو على هامشه ولربما كان من معارضيه او المتسلقين على قوى الشعب الثائرة ضده..
كما أن قوة النظام الساقط ليست هينة أيضا وتملك مصالح وإمكانيات تدفعها وتشجعها لمقاومة التغيير وإفشاله وإعادة النفوذ إلى النظام القديم لا كأشخاص بذاتهم ولكن كنهج ورؤية وإتجاه..وتلك إنتكاسة ليس فوقها إنتكاسة لا قدر الله..
إن جميع القوى الأجنبية وعلى رأسها أمريكا ؛ وقد يكون معها جهات رسمية عربية ؛ مع قوى وأدوات النظام السابق مع كل المتضررين من التغيير ؛ تعمل على إفشاله وتفريغه من محتواه وسلبه إمكانيات التقدم أو تدفعه للتقدم على طريق مسدود من خلال التحريض والفتنة والإغتيالات والفوضى ودوافع الثأر والإنتقام العشوائية ..
يبقى أن الوضع مرهون بأمرين اساسيين مفصليين :
## الاول : قدرة قوى السلطة الحالية على :
1 – تجاوز معطيات الحرب بما فيها من تفكير عسكري فصائلي ، هو فئوي بالضرورة ، يرجح منطق القوة المسلحة وحماية الذات والمكتسبات على حساب سيادة العدل والقانون..
2 – قدرتها على التملص من الضغوط الخارجية وخصوصا تلك التي ساعدتها أو مكنتها من البقاء والتقدم وإمتلاك السلطة..أو لنقل قدرتها على تحجيم مطالب الضغوط الأجنبية ومحاصرتها في أضيق نطاق ممكن شرط ألا يكون على حساب السيادة الوطنية وحرية الشعب والوطن..
3 – قدرتها على تجاوز زهو الإنتصارات العسكرية وما تزرعه من تعصب فئوي ؛ والإنطلاق في رؤية وطنية شاملة تتأسس على مشاركة شعبية حقيقية في بناء الدولة ومؤسساتها وفي صناعة المستقبل الحر..
## الثاني : مرهون بالقوى الشعبية الوطنية التي ضحت وشاركت في الثورة وكانت السبب الأساسي في نجاحها..وهذا أيضا مرهون ب :
1 – قدرتها على تجاوز حالة الشرذمة والإنقسام التي تعاني منها ومنعتها سابقا من الإنصهار في حركة وطنية شعبية واحدة..
2 – قدرتها على إستيعاب المتغيرات بموضوعية وديناميكية في ذات الوقت وأولها عمق وخطورة الأطماع الدولية الأجنبية ومقدرتها على إستثمار أي نجاح لصالحها إن لم تنجح في تعطيله وتخريبه..كما بإستيعاب ذلك الترابط العضوي الحيوي والمصيري بين قضية فلسطين والأوضاع الداخلية لسورية..بما يعني من إطلاق يد العدو الصهيوني – من قبل قوى النفوذ الأجنبي الغربية تحديدا – في التصرف بشؤون البلاد جميعا وأولها سورية..وهذا يستدعي من القوى الشعبية الوطنية أمرين إثنين : الاول إدراك خطورة التدخلات الأجنبية وتناقضها مع مطالب الشعب السوري..والثاني الضرورة الملحة لتجاوز أية إختلافات حزبية أو فئوية أو دينية أو سياسية بهدف الإنصهار في قوة وطنية واحدة تضم كل قوة شعبية ساهمت بالتغيير أو مستفيدة منه..والإبتعاد عن أية مناقشات هامشية تزيد الفرقة وتشتت التركيز على الأهداف الوطنية الكبرى..قوة وطنية يتمحور دورها في ثلاث مهمات أساسية :
الأولى : مساندة قوى السلطة الحالية والتفاعل معها وتزويدها بخلفية شعبية واسعة تساعدها في تحقيق المضمون الإيجابي للتغيير وبناء الدولة على أسس سليمة..
الثانية : تشجيع ودعم قوى السلطة لتحجيم الضغوط الأجنبية ومحاصرة تدخلاتها وأهدافها الخبيثة ، الخبيئة منها والمعلنة..
الثالثة : تحذير ومحاسبة قوى السلطة لحمايتها من أية سلوكيات غير متوافقة مع الشرعية الوطنية والدستورية أو الخروج على مقتضيات السلم الأهلي والإجماع الشعبي الديمقراطي..
إن إلتفاف القوى الشعبية حول قوى السلطة الجديدة ؛ وحرص السلطة على تبني خيارات القوى الشعبية والإستعانة بكفاءاتها في بناء الدولة الجديدة ؛ كفيلان بتمرير مرحلة التغيير وما فيها من عوائق داخلية وعراقيل خارجية كبيرة ، بأكبر قدر من الفائدة والمضمون الإيجابي وبأقل قدر من الخسارة في الجهد والبشر والزمن..
إن الإرث السلبي الخطير والشامل لكل مناحي الحياة في سورية ؛ بما فيها بنيان الإنسان ذاته وقدرته على التفاعل الإيجابي الحر مع الأحداث ؛ يحتاج إلى سنوات طويلة من العمل المضني والتعاون المفتوح والمشاركة الشعبية الفاعلة ؛ لإزالة آثاره ومفاعيله المخربة المدمرة..
إن طاقة الفرح عظيمة وقادرة على تحرير الإرادة وتعظيم الطاقات ، فلتكن حافزا لمشاركة منظمة فاعلة من كل قوة شعبية حرة سياسية وثقافية وإجتماعية ومهنية ونقابية وشبابية ونسائية لبناء سورية جديدة على مقاس شعبها العظيم وأهدافه الكبرى وتضحياته الأعظم..فلا يليق بكل تلك التضحيات العظيمة أية إنتكاسة أو تداع أو تخاذل أو تراجع..