رائد وحش
لا يمكن النظر إلى الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري بوصفه قضية أرض فقط، بل هو اليوم اختبار لمستقبل وهوية سوريا الجديدة. لهذا تقف سوريا اليوم أمام تحدٍ مركزي هو إعادة البناء بعد سنوات من الحرب والدمار دون المساس بالسيادة الوطنية والحقوق التاريخية. فأي محاولة للفصل بين إعادة الإعمار وبين مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والتطبيع معه هي تفكيك لقضية وطنية واحدة لا يمكن تجزئتها.
دأب النظام المخلوع دومًا على توجيه اتهامات بالعمالة لإسرائيل لتشويه معارضيه. كان هذه هي الوصمة الأسهل لتحويل النضال إلى مشروع خيانة، والمطالبة بالحقوق الطبيعية إلى ارتهان للعدو. وبعد سقوط هذا النظام، تحتاج سوريا الجديدة إلى موقف واضح وصريح تجاه الاحتلال الإسرائيلي. لا يمكن ترك التصريحات الفردية أو المواقف غير المدروسة كي تقود هذا الملف الحساس، بل يجب لأي تصور للعلاقة مع إسرائيل أن ينطلق من رؤية وطنية جامعة تحفظ الحقوق والسيادة.
إلى جانب المسائل الكبيرة والملحة والصعبة، مثل إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد وحفظ الأمن، هناك تحدّ لا يقل خطورة يمكن اختصاره على النحو الآتي: كيف نبني سوريا الجديدة دون التنازل عن حقوقنا الوطنية، في ظل واقع إقليمي يجري ترتيبه ليكون بيئة مريحة للمشروع الإسرائيلي؟
كانت سمة سنوات العقد السابق هي غياب المرجعية الوطنية السورية، لا سيما حين فقد النظام شرعيته بالنسبة للسوريين، لكن هذا لم يدفع المعارضين لرسم رؤية واضحة للعلاقة مع إسرائيل، ربما لأنهم – في العموم- متفقون على مبادئ أساسية هي الوقوف إلى جانب الحقوق الفلسطينية، والسعي لاستعادة الأراضي السوري المحتلة، الأمر الذي ولّد ارتباكًا في هذا المجال، خصوصًا أمام متاجرة النظام المستمرة بكل ما يتعلق بالقضايا الوطنية مع أن إسرائيل لم تتوقف عن قصف المدن السورية.
استغلّت أنظمة محور الممانعة القضية الفلسطينية ذريعة لتبرير قمع الشعوب وغطاء لجرائمها الداخلية، مما أدى إلى تشويه مفهوم المقاومة لدى الكثيرين
وبسبب هذا الغياب أو الارتباك، شهدنا ظهور مواقف فردية تحمل إشارات للتقارب مع إسرائيل، كما أعلنت بعض الشخصيات المعارضة عن القيام بزيارات إليها.
مع ذلك لم تُعبر هذه المواقف عن الإرادة السورية التي ترى في احتلال الجولان قضية وطنية كبرى، ما زال أهله يقاومونها برفض الجنسية الإسرائيلية والتمسك بانتمائهم السوري.
في 2018، شكّل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو ضم الجولان المحتل اختبارًا لوحدة الموقف السوري المعارض، لكنه كشف عن خلل في المرجعية وغياب للرؤية الجماعية القادرة على مواجهة القضايا الكبرى. والآن، مع الدخول في مرحلة جديدة، لا يمكن لهذا الغياب أن يستمر فاستعادة الجولان أولوية لا مساومة عليها.
استغلّت أنظمة محور الممانعة القضية الفلسطينية ذريعة لتبرير قمع الشعوب وغطاء لجرائمها الداخلية، مما أدى إلى تشويه مفهوم المقاومة لدى الكثيرين.
ومع ذلك، تظل مقاومة الاحتلال واستعادة الأرض المحتلة حقًا مشروعًا للشعب السوري، على أن تنبع من إرادة حرة، لا ترتبط بالاستبداد والقمع أو الأجندات الإقليمية ذات الأبعاد الطائفية.
أدى تورط حزب الله في قمع الثورة السورية إلى توتر كبير بينه وبين السوريين، مما أضعف التضامن الشعبي السوري مع لبنان خلال الاعتداءات الإسرائيلية. لهذا من الضروري التمييز بين رفض ممارسات حزب الله في سوريا ودعم لبنان كدولة شقيقة تواجه الاحتلال والعدوان.
رغم هذه التوترات، لم يغِب دور السوريين في دعم القضية الفلسطينية، وخاصة خلال حرب الإبادة المستمرة في غزة. واصل السوريون، سواء في الداخل أو في الشتات، التضامن مع القطاع معتبرين ما يحدث حرب إبادة مكتملة الأركان، وكان لافتًا توحد جزء كبير منهم على ذلك بين ما سُمي مناطق النظام السابق والمناطق المحررة، وأيضًا في دول الشتات. لكن البعض منهم راح يرى في علاقة إيران بالمقاومة الفلسطينية، وفي عودة العلاقات بين حماس ونظام الأسد البائد، ذريعة لغض النظر عن معاناة سكان القطاع المباد. مع أن المواقف الإنسانية تستطيع أن تجد لنفسها طريقًا أخلاقيًا رغم تعقيدات القضايا.
الآن وقد سقط الأسد، وسقطت معه مفاهيمه وأجندته الخاصة، يحتاج كل السوريين إلى تشكيل مقاربة جديدة للقضية الفلسطينية، وكذلك للموقف من إسرائيل، بحيث ينطلق على ذلك من مصلحة سوريا التي تحتاج أن تكون حرة، وإسرائيل تحتل جزءًا منها، وأن يقوم على موقف إنساني وسياسي من فلسطين. لكن قبل ذلك لا بد من موقف واضح وجود الاحتلال الإسرائيلي للجولان، والتوغل الأخير في الأراضي السورية، والسعي إلى تقسيم البلد إلى دويلات ضعيفة.
لا بد من الإشارة إلى أن الجولان السوري المحتل مرتبط الى حد كبير بالقضية الفلسطينية، فمن الجهة النظرية غالبية الأبحاث التي تهتم به سياسيًّا واجتماعيًّا من كتابة فلسطينيين، أو من نشر جهات فلسطينية، ومن الناحية الاجتماعية، حين حاول النظام السابق طي صفحته، وجد أهالي الجولان المحتل في فلسطينيي الداخل عمقًا حضاريًّا وإنسانيًا.
هناك حقائق واضحة في المشهد السوري، أحد أهمها هو الاحتلال الإسرائيلي للجولان يمثل أحد أقدم مظاهر العدوان على سوريا، في وقت لم تتوقف فيه إسرائيل عن الاعتداء على المدن السورية تحت ذرائع مختلفة، كان أبرزها استهداف الوجود الإيراني. هذه الاعتداءات، التي تزامنت مع سقوط النظام، دمرت جزءًا كبيرًا من المقدرات العسكرية السورية.
في ظل هذا المشهد، تبرز تساؤلات حول جدوى دعوات التطبيع أو رسائل التهدئة مع إسرائيل، التي يبدو أنها تسعى لكسب الدعم الخارجي بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب الحقوق الوطنية للسوريين.
لا شك أن محاولة كسب الدعم الدولي تهدف إلى الحصول على المساعدات والدعم المادي من أجل تخفيف الضغوط الداخلية، لأن هناك ضعفًا كبيرًا في سوريا يجعلها غير قادرة عن حماية سيادتها في هذه المرحلة.
إلى جانب ما يحمله هذا النهج من تنازل عن الحقوق الوطنية، ومن انفراد بالقرارات الاستراتيجية. فهذه القضايا الكبرى مثل استعادة الأراضي المحتلة والدفاع عن السيادة الوطنية، او الإقدام على اتفاقيات سلام لا يمكن أن تطرح من حكومة انتقالية، بل من حكومة شرعية.
سوريا الجديدة بحاجة إلى رؤية وطنية موحدة تعزز بناء الداخل، وتحفظ السيادة والكرامة الوطنية، وتجعل من مقاومة الاحتلال جزءًا من مشروعها المستقبلي
الرهان على القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتحقيق مكاسب سياسية قد يبدو حلًا سريعًا، لكنه لا يأخذ بعين الاعتبار أن هذه الدول تتحرك وفق مصالحها الخاصة، وليس ضمن مصالح الشعب السوري. أي محاولة للتطبيع دون استعادة الحقوق الوطنية ستُضعف سوريا، وتجعلها عرضة للضغوط الخارجية على المدى الطويل. وبدلًا من التركيز على كسب الرضا الخارجي فقط، يجب على الحكومة المؤقتة أن تتبنى خطابًا يوازن بين الدفاع عن الحقوق الوطنية والسعي لتحقيق الاستقرار.
من هنا يجب التأكيد على أن سوريا الجديدة بحاجة إلى رؤية وطنية موحدة تعزز بناء الداخل، وتحفظ السيادة والكرامة الوطنية، وتجعل من مقاومة الاحتلال جزءًا من مشروعها المستقبلي.
وأما بخصوص اظهار التخلص من محور “الممانعة”، فهذا واضح للجميع، والتفريق سهل ويسير بين استغلال القضية الفلسطينية من قبل النظام السابق وبين شرعية مقاومة الاحتلال.
لو فكرنا بواقعية سياسية سنرى أن العلاقات مع إسرائيل ليست لمصلحة سوريا إطلاقًا لأنها تحتاج إلى تحقيق استقلالها وسيادتها، وليس إلى الخضوع لضغوط قوى خارجية كانت مصدر تهديد وعدوان. ربما تخدم هذه العلاقات بعض النخب السياسية، لكنها على المدى الطويل تُضعف السيادة الوطنية وتزيد من خطر السيطرة الإسرائيلية، المباشرة أو غير المباشرة، على القرار السوري.
في النهاية، القضية ليست مقاومة فقط، بل هي دفاع عن الحقوق السيادية والكرامة الوطنية. ولا يمكن فصل فظائع الاحتلال الإسرائيلي عن المآسي التي عانى منها الشعب السوري بسبب الاعتداءات والغارات المستمرة. كما أنه لا يمكن النظر إلى خريطة المنطقة الحالية دون أن نضع دمار أحياء دمشق وحمص إلى جانب دمار مدن قطاع غزة.
أخيرًا، لا معنى الحديث عن مستقبل سوريا دون التمسك بالحقوق الوطنية وبالكرامة السيادية. وبهذا المنحى، ليست استعادة الجولان ودعم القضية الفلسطينية مجرد شعارات، بل هي تعبير عن التزام سياسي وأخلاقي يحدد هوية سوريا الجديدة، التي يجب أن تكون مبنية على مقاومة الاحتلال بكل أشكاله، مع بناء دولة مستقلة وقوية تضع مصالح شعبها فوق كل اعتبار.
في خريطة منطقتنا المتغيرة، لن تجد سوريا مكانها إلا إذا عادت إلى موقعها الطبيعي بوصفها صوتًا للعدالة والحرية.
المصدر: صوت الترا