ليلى الشايب
“نحن عرب، نحن مثقفون، نحن نفكر، وأكثر. نحن آباء، نحن أمهات، نحن محبّون وعاشقون. لسنا محدودي الأبعاد كما يحاولون أن يصورونا منذ مائة عام، نحن الجمال.. ليست لديهم أيّ فكرة كم أن بلداننا جميلة، مزاجنا أجمل.. أكلنا أجمل، كلّ شيء عندنا جميل. أنا هنا اليوم لأقول لكم: أنا عربي وفخور بأني عربي وفخور بالأماكن التي أتيت منها، لن نقبل بعد الآن هذا القمع الثقافي. هذا زمننا لنتألق، نحن المستقبل.. نحن المستقبل”.
ليس هذا مقتطفاً من خطاب سياسي، بل كلمات تدفّقت بعفوية مدهشة من أعماق نفس وروح شابّة، أمام جمهور من شباب عربي جاء ليستمع ويهتزّ على نغمات وكلمات الفنّان الفلسطيني الشاب مروان (أو Saint Levant كما يعرف في الساحة الفنّية العالمية التي يكتسحها بوتيرة متسارعة). عندما تحدّث إلى جمهوره خلال الحفل، بهذه الكلمات التي لا تبدو مجهّزة أو خاضعة لأيّ مونتاج أو إخراج، كان الأروع منها هتاف الشباب المتلوِّن بأصوات الفرحة والتحدّي والقوة، والتأكيد على كلّ حرف نُطِق به، والتماهي مع تلك الكلمات ومعانيها ورسائلها، وهو شباب ولد أغلبه وتربّى وشبّ في الغرب، ولكنّه، كما تشهد لحظات التخاطب بينه وبين فنّانه الذي يشبهه، بقي شباباً عربياً قلباً وقالباً، واعياً بما يدور حوله، وبما حدث ويحدث منذ “مائة عام” وأكثر، في علاقة شائكة وجدلية بين الشرق والغرب، ومدركاً حقيقة وجوده الجغرافي الحالي، والسياق التاريخي الذي أوصله إليه، و توّاقاً إلى مستقبل قد يغيّر واقعاً طال أمده أكثر ممّا ينبغي.
الاعتراف بأن العرب تعايشوا مع جلد الذات، وليس مع النقد البنّاء لذواتهم، هو بداية الطريق نحو التعافي
تكمن قوة هذه اللحظة أيضاً في أنها جاءت بلغة إنكليزية سلسة، بسيطة، منعشة، نابضة، بلا تعقيدات أو أيّ قدر من السلبية أو محاولة التأليب. حقيقة صيغت بأسلوبٍ ونبرةٍ تخلص معها إلى مخاطبة نفسك بالقول: “فعلاً، نحن لسنا بهذا السوء”. وهي ترتقي إلى درجة من درجات “الصحوة” التي نشهدها منذ أشهر، لا ترتبط بأحداث سياسية محدّدة، بل هي محصلّة تراكمات وتفاعلات بأبعاد شتى.
دأبت العادة على أن تصدر مشاعر الغبن والتظلّم والبكاء على أمجاد الماضي والحسرة على ما كان يمكن أن يكون ولم يتحقّق، من البالغين والأجيال الأكبر سنّاً أساساً، ممّن عاشوا فترات الانتكاس وفهموا أسبابه، ومن سمعوا قصص آبائهم وأجدادهم، ومن قرأوا التاريخ الحافل بالمآثر، و لكن المُستجدّ اليوم أن شباباً عربياً تعرّض لتأثيرات مختلفة ومحاولات لا تهدأ من أجل تدجينه وقطع كلّ صلة بينه وبين أصوله وجذوره، لا بل تمييعه وإقناعه بأنه يحمل جينات لا تبعث على الإحساس بالفخر ولا تؤهّله للذهاب بعيداً ولا للتفوّق والإنجاز من دون “رعاية” العالم المتحضّر المتطوّر، الذي ينعم اليوم بالعيش في جنّته وعليه أن يشعر في كلّ لحظة بالامتنان على هذه النعمة. ولكن تأتي الدلائل متواترةً بأن هذا الشباب بالذات تمرّد على هذه السردية وبدأ يطرح الأسئلة الممنوعة، ويقرأ التاريخ بعقل متحرّر من الكليشيهات، ويُعدّد المصادر ويقارن خصوصاً بين المُدَّون في المواثيق والمراجع وبين ما يراه في الأرشيف والمتاحف تارّة، وما يحدث فعلياً ويومياً تارّة أخرى في أماكن عديدة، وخصوصاً في منطقته العربية التي تتركّز حولها وفيها القرارات والأفعال السياسية والعسكرية، وإعادة التشكيل التاريخي والديمغرافي والثقافي والمصالح، وما تفترضه من صراعات قديمة متجدّدة، فهل يمكن أن يحدث هذا كلّه، وبهذا الثقل كلّه، من دون أن يدفع إلى طرح السؤال الجوهري الملحّ، حتى لغير المغرمين بالتساؤل: لماذا هنا دائماً؟ ولماذا نحن دون سائر شعوب الأرض؟
الإقرار بالخطأ ومكاشفة الذات من أهم شروط العلاج، والاعتراف بأن العرب تعايشوا مع جلد الذات، وليس مع النقد البنّاء لذواتهم، هو بداية الطريق نحو التعافي، إذ لا مجال أو فائدة ترجى من الاستمرار في توريث متلازمة “العرب واحتقار الذات” للأجيال المتعاقبة، وتحديداً للجيل الحالي ومن سيليه، وهو جيل يمتلك القدرة على الوصول إلى المعلومة ومصادر المعرفة المتنوعة، وغير قابل بطريقة ما للخضوع لمحاولات هندسة وعيه ومشاعره تجاه ذاته بالشكل السلبي الذي يحيل إلى ما يشبه حالة العجز، كما خضع قبله آباء كثيرون، حتى وهم متعلّمون، وحاول كثيرون منهم مقاومة هذا الاستهداف النفسي والذهني الممنهج، ولكن مقدار النجاح لا يكاد يذكر أمام واقع مليء بالخيبات، ليست كلّها من صنعهم. عقود من الترويج بالصورة والكلمة والموقف و”شواهد تاريخية”، بأسلوب صريح حيناً وموارب حينا آخر، لشخصية كائن عربي همجي، عنيف، متسلّط ومُتسلَّط عليه، يعيش بلا بوصلة، يمارس الكذب والتحايل، ويقول ما لا يفعل، يحيا للملذّات والشهوات ولا قيمة للوقت لديه، ومع تطوّر العصر وما أتاحه من وسائل سهّلت الحياة، أضاف هذا الكائن صفة “المستهلك” الذي لا يُتعِب عقله، بل يتسلّى فقط بكلّ جديد، وحين يغضب يلجأ إلى “الإرهاب” ليخرّب حياة الآخرين، ويجلب الانتباه إليه، لأنه لا يُحسِن التعبير عن مشاعره السلبية إلّا بالعنف المفرط، ولأنه يكره الآخرين المختلفين عنه، ويضمر لهم الشرّ دائماً، حتى لو لم يظهر ذلك علناً… كائن إذا لم يكن القضاء عليه ممكناً، فمن الواجب محاصرته ووضعه تحت الوصاية وتدجينه وتهذيبه في الحدّ الأدنى، حفاظاً على سلامة البشرية.
لا يكمن الخطر في نجاح مروّجي صورة “الإرهابي” في تعزيزها ضدّ العربي بالمطلق، بل في تبنّي عرب لها وتصديقها في اللاوعي
لا يكمن الخطر في نجاح مروّجي هذه الصورة في تعزيزها نسبياً وعالمياً ضدّ العربي في المطلق، رغم محاولات جادّة لمواجهتها وتصحيحها، بل في تقمّص عرب كثيرين لهذه الصورة المقيتة وتبنّيها وتصديقها في اللاوعي، ومن ثمّ الانخراط في الحملة طويلة الأمد والنَفَس بعملية جلد للذات لا تنتهي، ومعارك مع ذواتهم منتهاها أنهم بالفعل يستحقّون هذا المآل وهذه الزاوية التي ينكفئون فيها على أنفسهم على رحابة هذا العالم. حالة تراوح بين الفصام وبين الميل لتبنّي دور الضحية ثمّ التعلّق بالآخر الأقوى المسيطر، الذي صنع له الصورة وسجنه داخلها، ولأن لكلّ كذبة مهما طال أمد صلاحيتها نهاية، فقد بدأت بوادر التمرّد (وبقوة) على هذه الصورة وصانعها في العقدَين الأخيرَين بشكل لافت، منتظم، متدرّج ومتصاعد، وجاءت أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023) لتزيح آخر الحواجز الفاصلة بين المرآة العاكسة المشوّهة وصاحب الوجه الحقيقي، بملامحه الأصيلة، إذ كلّما اقتربت لحظة رؤية تلك الملامح من قرب ازدادت محاولات التشويه والتخويف والتعتيم وكتم الصوت، إلّا بالعويل المسموح به للضعفاء أو الشتم والتهديد الذي يكمل صورة “العنيف” و”الخطير”، إلّا أن ساحات العالم التي امتلأت بالناس الأحرار، ممّن رفضوا نهائياً و قطعياً استمرار لعبة غسل العقول وتزوير الحقيقة، كانت فضاءً بديلاً، ظهر فيه عرب كثيرون على غير ما ظلّ يُروَّج عنهم، يرفعون شعارات ويردّدون أغانيَ وأهازيج، وضجت رقصات عريقة وألوان ورموز في كنف السلمية والنظام، فأصابت بعدواها في زمن التواصل الاجتماعي ساحات أخرى، في عواصم ومدن كثيرة عبر العالم، والتقطها متظاهرون من جنسيات شتى لا يعرفون من اللغة العربية شيئاً، يدافعون هم أيضاً عن الحقّ في الوجود وعن الحرّية ويرفضون الغطرسة والإجرام والظلم والتسلّط والنفاق العالمي، وهي كلّها لغة مشتركة لا تحتاج إلى ترجمة. إن الأروع في ما حدث أن الأخيار في العالم (وهم أكثر ممّا كنا نتخيّل)، قرّروا أن يكونوا صوت القضية الأكثر أهميةً في التاريخ الحديث، وصوت أصحابها الذين من خلالهم تكشّفت للعالم (المُخدَّر) صورة جميلة غير تلك التي تشكّلت في ذهنه وأصبحت محدّداً لسلوكه وردّات فعله تجاه العربي بشكل عامّ طوال سنوات وعقود.
لم يكن هذا ليتحقّق لولا هذه الثورة التكنولوجية التي بفضلها أصبح من الصعب اختزال الأشياء في أبعاد محدّدة تخدم أهدافاً محدّدةً. وفي انتظار أن ينخرط العرب، بإمكاناتهم الهائلة في هذه الثورة، وفي إنجازات أخرى لصالح البشرية، تُمكّن الغرب، المصدر الرئيس للصورة البائسة تلك، من التعرّف من قرب إلى شباب عرب أفذاذ ومبدعين، وجدوا عنده الفرصة السانحة للابتكار والإنجاز والتألّق، وتُؤكّد أن جينات الذكاء موزّعة في هذا الكون بين الجميع، وبعدل يراد نفيه والمزايدة عليه… شباب أعاد الغرب من خلالهم اكتشاف قيم نسيها أو كاد، تحت ذرائع التغيير المجتمعي والتطوّر واتساع هوامش الحرّية، وتذوّق معهم طعم أطباق وأكلات عابرة للأجيال، وسمع موسيقاهم وشعرهم، ونبذات من تاريخهم الذي حُرِّف ومُسِحت منه فترات بأكملها، وشاهد مقاطع من بلدانهم ومدنهم الجميلة وآثارها الصامدة، وسمع صوت الأمّ عبر الهاتف تحاول أن تطمئنّ على ابنها/ ابنتها. على صحّته وأكله ونومه وحياته، وتبثّه شوقها وعاطفة الأمّ التي افتُقِدت في كثير من المجتمعات الفردانية، التي أصبح فيها الإنسان وحيداً بائساً، يغطّي بؤسه بالإنجاز العملي والسفر. وها هو اليوم يرى عرباً مثقّفين، يفكّرون ويحلمون ويعشقون، ويقدّرون كلّ شيء جميل، أصحاب مزاج رائق، يعرفون كيف يفرحون ويتطلّعون إلى المستقبل ولا يعيشون في الماضي كما يقال عنهم. فهل ينبغي أن نشكر الفنان الشاب المدهش المفعم بالحياة “Saint Levant” لأنّه ذكّر جمهوره وكلّ من شاهده، في هذا التوقيت بالذات، بجانب مضيء في العربي يوضع غالباً في زاوية مُعتمة عمداً؟ وهل نشكره أكثر لأنه عرف كيف يتوجّه إلى الشباب بكلمات تلامس الوجدان فردّ عليها بأكثر من مُجرّد حماسة، بل بتماهٍ تامٍّ ينبئ بأن الرسالة وصلت. وأخيراً، هل تصدق رؤياه لشباب جيله بأن “هذا زمننا لنتألق”، و”نحن المستقبل”؟
المصدر: العربي الجديد