مراد بطل الشيشاني
لعلّ لقاءات الحاكم الفعلي لسورية اليوم، أحمد الشرع، ذات الطابع الخارجي، تلقى اهتماماً كبيراً، لا تلقاه تلك ذات الطابع الداخلي، سواء لقاؤه مع رجال الأعمال، أو مع وفود من سوريين يقيمون في الخارج، أو رجال الدين الدمشقيين، لا بل حتى زيارته حيّه السابق، المزّة. ولكل هذه اللقاءات والزيارات أهمّية، تعطي مؤشّرات إلى دولة ما بعد الأسد في سورية. تطمين الخارج، والبحث عن قنوات تواصل وتفاهمات إقليمية ودولية أمر مفهوم، لكنّه واضح بدرجة كبيرة، لكن ماذا عن الداخل؟
كثيراً ما تستدعي هذه اللحظة التاريخية الرؤساء الذين حكموا سورية، منذ الملك فيصل بعيد الحرب العالمية الثانية. ولعلّ حافظ الأسد أكثر تلك النماذج ارتباطاً بتأسيس نموذج بنمط جديد للدولة، منذ انقلابه على صلاح جديد في “الحركة التصحيحية” (1970). ويحضر هنا كتاب الفلسطيني الأميركي، حنا بطاطو (1926- 2000)، “فلاحو سورية… أبناءُ وجهائهم الريفيين الأقل شأنًا وسياساتهم” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2014)، بحكم الجدل الدائر حالياً همساً في دمشق، عن أدلبة المدينة، نسبة إلى إدلب، حيث كان مستقرّ المعارضة السورية، وفيها نظمت هيئة تحرير الشام “حكومة الإنقاذ”، وهو النموذج المطروح شكلاً أمثل لحكم سورية الجديدة من أحمد الشرع ونخبته. أيضاً، ارتبطت الأدلبة بتغييرات اجتماعية تشهدها المدينة، دفعت بعضهم إلى الإشارة إلى غياب المدن الكبرى عن التحوّلات السياسية الجديدة، حتى أن بعضهم يتندّر بأن “إدلب هي القرداحة الجديدة”، “فلا يوجد ولا دمشقي في الحكومة الجديدة”، على حدّ تعبير أحد الشوام الذين تحدّث إليهم كاتب هذا المقال.
يصف بطاطو حافظ الأسد بـ “الرئيس الفلّاح”، ويرى أنه بنى سلطته ونظامه اعتماداً على دوائر مقرّبة على شكل طبقاتٍ تبدأ من مسؤولي الأمن والمناصب الحسّاسة، ومن ثمّ الطبقة السياسية في حزب البعث، بحيث إنه بنى الطبقة المحيطة به بشكل دقيق. ولكن بعد عام 1976، ووصولاً إلى ذروة مواجهته مع الإخوان المسلمين في حماة عام 1982، حين ارتكب مجزرته المشهورة، بات يعتمد بشكل أكبر على أبناء طائفته العلوية. ويقدّم بطاطو مسحاً مهمّاً بالأسماء الذين يتولّون مناصب حسّاسة في الدفاع والأمن من غير العلويين، لكن القرارات بيد علويين اختارهم الأسد بعناية.
التحدّي الأكبر الذي يواجهه الشرع إبقاء قاعدته الصلبة، من رفاق السلاح والجهاد، ملتفّين حول تصوّره الجديد “التحوّل داخل السلفية الجهادية”
ويناقش بطاطو أن لجوء الأسد إلى طائفته نابع من طبيعته الريفية، التي دفعته إلى الالتفاف حول الأقربين. وبهذا المعنى، نعم ليس الشرع الأسد، وقد لا يقبل بمقارنة من هذا النوع، ولا هو فلاح بتعريف بطاطو الأسد، ولا من خلال خلفيته الاجتماعية. لكن من الواضح أنه ينحو، في سياسته، بهذا الاتجاه في تنصيب مقرّبين، وبناء طبقة حاكمة ترتبط بمشروعه بشكل مباشر، كما يتبدّى من الأسماء التي اختارها للمناصب الحسّاسة (الأمن وبدرجة أقل الخارجية) ويعيد إنتاج طبقة (مسنوداً بشعبية كبيرة) مدينية، تستلهم من ماضيه الدمشقي، على قصر الفترة التي قضاها فيها، وعلى تأثّره بوصف “النازح” خلال طفولته هناك. وبالتالي، يستدعي هذا أيضاً جذب طبقة رجال الأعمال، بشكل يُذكّر بالنموذج الأردوغاني، الذي أنتج طبقة جديدة من رجال الأعمال، سحبت البساط من برجوازية اسطنبول القديمة، وأعاد موضعتها في مناطق جديدة في أطراف العاصمة، حتى باتت هي المركز بحكم وجود المطار وناطحات السحاب فيها.
وهذا يستدعي، أيضاً، سياسات رعاية اجتماعية، سيلجأ إليها الشرع، لبناء قاعدة مدنية جديدة له، وهو ما تبدّى في لقاءاته مع مشايخ دمشق، وهم رعاة الأعمال الخيرية بطبيعة الحال في كثير من المناطق الأقلّ حظاً في دمشق، التي ستكون نواة تلك القاعدة. كما أن عملية عودة اللاجئين يلتفت إليها الشرع بعناية، لأنها ستفرض وقائع ديمغرافية مهمّة. لكن التحدّي الأكبر الذي سيواجهه الشرع في هذا الصدد، على المدى القصير، قدرته في التوصّل إلى اتفاق مع الفصائل المسلّحة الأخرى، التي ترفض إلقاء السلاح، وتعتقد أن دورها في إسقاط الأسد كان لا يقلّ (إن لم يكن أكبر)، من دور هيئة تحرير الشام، ومن غرفة العمليات العسكرية، على الرغم من الإعلان عن اتفاق الفصائل كافّة على نزع السلاح، وهو أمر لم يتحقّق في الواقع بعد. أمّا على المستوى الأبعد، فالتحدّي الأكبر الذي يواجهه الشرع، هو إبقاء قاعدته الصلبة، من رفاق السلاح، والجهاد، ملتفّين حول تصوّره الجديد، أو ما يسميه كاتب السطور التحوّل داخل السلفية الجهادية، إذ هناك محكّات شرعية- دينية، ستشكّل اختباراً لتلك العلاقة، التي لن يرى هؤلاء فيها إمكانية التفاوض، وتقدير المصلحة فيها، ولعلّ موضوع المقاتلين الأجانب إحداها، بكلّ ما تثيره من أزمة ترتبط بتجنيس كثيرين منهم ودمجهم في مشاريع تطوير الجيش، وهو ما قد لا يلقى قبولاً محلّياً، لكن القاعدة الصلبة ترى هذا واجباً شرعياً تجاه إخوة السلاح. ومثل هذه القضايا ما زال كثير منها قيد الانتظار في سورية.
المصدر: العربي الجديد