عبد الباسط سيدا
بات حكم آل الأسد جزءاً من الماضي، وهو الحكم الذي ستظلّ نتائجه الكارثية على صعيد الإجرام، المتمثّل في تدمير الإنسان والاجتماع والعمران والاقتصاد، كابوساً ثقيلاً لن يتحرّر منه السوريون إلا في عقودٍ، تبدأ بتطبيق مبادئ العدالة عبر المساءلة والمحاسبة، إلى جانب تحقيق المصالحة الوطنية بهدف ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري، وتحصينه أمام تدخّلات القوى الخارجية، والطوابير المحلّية التابعة لها، وهي القوى التي لن تسكت عمّا أصاب مخطّطاتها الشريرة من انهيار سريع سوريالي لم تتخيّله في أي يوم. ولكن الانهيار الذي لم يكن وارداً قبل شهرين في حسابات المتضرّرين تحوّل واقعاً مريراً عندهم بعد هروب بشّار الأسد (8 /12/ 2024) إلى الحضن الروسي في انتظار المستقبل المجهول، الذي لن يكون بجميع احتمالاته في صالحه، بل سيكون وبالاً يُطبِق عليه مع مرور الوقت، هذا ما لم تجرِ عملية إلغائه من الوجود ممّن يريد أن يدفن معه أسرار الصفقات القذرة. وإذا أخذنا الكلام الذي قاله المفكّر الإيطالي غرامشي، مع شيء من التعديل، لتوصيف الحالة التي يعيشها السوريون راهناً، يمكننا القول هنا: “مات القديم، ولكن الجديد المُنتظَر لم يتشكّل بعد”.
وإلى حين تجلّي معالم المولود المأمول، تخيّم على السوريين مشاعرُ متبانيةٌ، منها رغبوية تتمحور حول سورية التي يريدونها، ومنها تأملية نقدية تتمفصل حول سورية الممكنة على المستويين، الداخلي والخارجي، القادرة على النهوض في الميدان الداخلي، والمنفتحة على التفاعل الإيجابي مع الجوار الإقليمي والمحيطَين، العربي والدولي، وهما شرطان لا استغناء عنهما في أيّ عملية تنموية استثنائية تضمن للسوريين قواعد العيش الكريم من خلال تأمين فرص التعليم والعمل والسكن المقبول والرعاية الصحّية المناسبة، وغير ذلك من الأولويات الحياتية الضرورية.
تمكّنت سلطة الأسد من تثبيت نفسها بمظلّة دولية غضّت النظر عن ممارساته القمعية في الداخل السوري
ولكن التنمية في حاجة إلى الاستقرار المجتمعي، والأخير لن يكون من دون توفّر الضمانات التي يتكفّل بها دستور يحظى بموافقة الغالبية الساحقة من السوريين. وهذا الدستور لن يُتوصّل إليه من دون وجود هيئة تشريعية، ومؤتمر وطني عام تأسيسي سوري، تُكلّف لجنة أو هيئة تضمّ ممثّلين عن سائر المكونات المجتمعية والتوجهات السياسية السورية بكتابته، مع نخبة مختارة من الخبراء القانونيين المعروفين بمؤهّلاتهم وحِرْفيَّتهم. وتستوجب مثل هذه الخطوة وجود قوىً سياسيةٍ فاعلةٍ من مختلف الأطياف الفكرية والمجتمعية، قادرةٍ على الحوار والتفاعل والتوافق مع الإدارة الجديدة المؤقّتة التي تقود البلد حالياً. وفي غياب هذه القوى، أو في ظلّ وجودها غير المؤثّر (ينسحب هذا الأمر على القوى السياسية التقليدية التي كانت قبل الثورة السورية عام 2011 أو التي ظهرت خلال سنوات الثورة في نحو 14 عاماً)، تتّجه الأنظار نحو منظّمات المجتمع المدني والمجالس المحلّية والنقابات، وإلى المؤثّرين في المجتمع الأهلي، والشخصيات الوطنية المعروفة بوزنها ومصداقيتها. ومُلاحظ أن هذه الوضعية هي بمثابة قاسم مشترك بين سائر المكوّنات المجتمعية السورية، ما عدا الكرد، الذين لديهم أحزاب لها حضور في الشارع الكردي، ولا سيّما الأحزاب الداخلة ضمن إطار المجلس الوطني الكردي. أمّا في ما يخصّ قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، والأحزاب الملتفّة حول “الإدارة الذاتية”، فمرجعيتهم تتمثّل في حزب العمال الكردستاني، رغم التصريحات التي أطلقها قائد “قسد”، مظلوم عبدي، بخصوص عدم تبعيتهم التنظيمية لحزب العمّال، واستعدادهم لإخراج المقاتلين غير السوريين بعد التوافقات مع الإدارة السورية الجديدة في دمشق، وحتّى مع الجانب التركي، الذي عبّر عبدي أكثر من مرّة عن استعداد “قسد” التحاور معه. ولم تصدر بعد أيّ تصريحات من حزب الاتحاد الديمقراطي بخصوص هذا الموضوع. ويجعل هذا الواقع من عملية اختيار ممثّلي المكوّنات المجتمعية والتوجّهات السياسية للمشاركة في أيّ حوار وطني (كالحوار الذي أعلن قائد الإدارة السياسية الجديدة، أحمد الشرع، تنظيمه في المستقبل القريب ضمن إطار مؤتمر وطني عام) غايةً في الصعوبة.
على السوريين أن يتجاوزوا الخلافات العبثية، واحترام الآخر المختلف ضمن إطار وحدة الشعب والوطن
هذا المؤتمر الذي من المفروض أن يتوافق على هيئة مكلّفة بكتابة الدستور، وربّما هيئة أخرى تشريعية مؤقّتة تكون بمثابة مرجعية للحكومة أو الحكومات المؤقّتة، التي ستقود البلد خلال المرحلة الانتقالية، وذلك ريثما تنتهي عملية كتابة الدستور، الذي لا بدّ أن يُعرَض على الاستفتاء الشعبي العام، لتجرى الانتخابات العامّة بناء عليه، وبموجب النظام الانتخابي وقانون الأحزاب، وهذه العملية كلّها قد تستغرق، وفق ما ذهب إليه رأس الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، وقتاً طويلاً بعض الشيء، قُدّرت بسنوات أربع، على وجه التخمين أو التقريب. ومن المفروض أن تكون الحكومة، أو الحكومات، الانتقالية التي ستتشكّل بعد حكومة الطوارئ ذات اللون الواحد، التي أسند الشرع رئاستها إلى محمّد البشير، معبّرة عن التنوع السوري، على المستويَين المجتمعي والسياسي، قدر الإمكان، وذلك لطمأنة الجميع بأن سورية المستقبل سيكون فيها مكانٌ للجميع على اختلاف انتماءاتهم وتوجّهاتهم. وخطوة كهذه ستجنب سورية والسوريين كثيراً من الأخطاء والمشكلات التي عانتها مجتمعات ودول في منطقتنا، والأمثلة في هذا المجال كثيرة، يستطيع أي مهتمّ متابع أن يطّلع عليها، ويقف بنفسه على أوجه الخلل فيها، والكوارث التي ترتبت عليها.
ما حدث في سورية لم يكن بالأمر العادي، بل هو حدث استثنائي تاريخي مفصلي، ستكون له تبعاته على الواقع السوري الوطني، وعلى الجوار الإقليمي، الذي يتأثّر بصورة مباشرة وغير مباشرة بما يحدث في سورية، سلباً أو إيجاباً. فالسلطة الأسدية، التي استمّرت على مدى 54 عاماً، كانت قد تمكّنت من تثبيت نفسها بمظلّة دولية، وبموجب معادلات إقليمية تمكّن الأسد (الأب) من التعامل معها بحنكة ومرونة إلى حدّ الخنوع، في مقابل غضّ النظر عن ممارساته القمعية في الداخل السوري ضدّ المعارضة، بأطيافها كلّها، ولا سيّما الإسلامية منها. ولكن مع تسلّم الأسد (الابن) السلطة، بموجب عملية التوريث التي كان حافظ الأسد قد هندسها بعناية مع رجاله في السلطتَين المدنية والعسكرية، بدأت عملية إطاحة المرتكزات التي كان والده قد استند إليها ليستمرّ في الحكم. فسرعان ما تخلّص بشّار من المسؤولين الذين لولاهم لما تمكّن من الوصول إلى السلطة، وكان ذلك بتهميشهم أو اعتقالهم أو نفيهم، وحتى اغتيالهم. ولم تقتصر اغتيالاته على السوريين، بل امتدّت إلى لبنان لتطاول السياسيين والمثقّفين المعارضين لسطوة أجهزة مخابراته القمعية هناك. وكان من الواضح أنه قد سلّم أوراقه كلّها إلى النظام الإيراني وذراعه في لبنان حزب الله.
ستكون للمتغيّرات السورية تأثيرها الكبير في الوضعَين الإقليمي والعربي بصفة عامّة
ومع انطلاقة ثورة السوريين ضدّ حكمه المستبدّ الفاسد المُفسِد، اعتمد بشّار الهارب على نظام “ولي الفقيه”، وعلى حزب الله، بصورة أساسية في قمع السوريين، وتدمير بلداتهم ومدنهم، وتهجيرهم وقتلهم، كما استعان بفصائل الحشد العراقي، وبفصائل من باكستان وأفغانستان، إلى جانب الروس. ونتيجة القمع الوحشي غير المسبوق الذي استهدف السوريين، وتبدّل المواقف الإقليمية والدولية، اعتقد كثيرون أن بشّار قد انتصر، بل كان هذا الأخير يتبجّح بكلّ غطرسة بانتصاره المزعوم على “المؤامرة الكونية” ضدّ حكمه الهزيل. هذا في حين أن المطلع على الوضع السوري، والمتابع له، كان يدرك أن مسألة سقوط حكم بشّار لم تكن سوى مسألة وقت لا أكثر، ريثما تتهيأ الظروف وتصبح الشروط مواتيةً. وجاءت اللحظة التاريخية المناسبة مع الضربات القاصمة التي تلقّاها المحور الإيراني التوسّعي، في لبنان خاصّة، إذ فقد حزب الله قياداته العسكرية والسياسية من الصفَّين الأول والثاني، وذلك بعد الهجمات الإسرائيلية غير المسبوقة التي تعرّضت لها معاقله الرئيسة في الضاحية والجنوب وبعلبكّ، وهي الهجمات التي أكّدت حدوث تغيير لافت في قواعد اللعبة مع النظام الإيراني وأذرعه في المنطقة. أمّا الطرف الذي استغلّ اللحظة المناسبة، في أجواء من التوافقات الإقليمية والدولية، فقد تمثّل في هيئة تحرير الشام، وقائدها أحمد الشرع، الذي استطاع أن يقود قواته من إدلب إلى قلب دمشق بعد انهيار جيش سلطة آل الأسد، وهروب بشّار وأخيه، بالإضافة إلى العديد من القيادات التي كانت تتباهى سابقاً بإنجازاتها الوهمية، ونياشينها الخلّبية. ما حدث من تغيير نوعي سريع نتيجة السقوط المدوّي لحكم آل الأسد ستكون له انعكاساته على الأوضاع في كلّ من لبنان والعراق، وذلك نتيجة التغلغل الإيراني في البلدَين، وهو التغلغل الذي تعرّض لضربة موجعة بفعل سقوط سلطة بشّار، التي راهن نظام “ولي الفقيه” عليها، واستثمر فيها كثيراً. وبطبيعة الحال ستكون للمتغيّرات السورية تأثيرها الكبير في الوضعَين الإقليمي والعربي بصفة عامّة.
ويبقى الأكثر أهميةً من هذا وذاك، راهناً، أن يتمكّن السوريون الذين يستنشقون اليوم عبق الحرّية، ويشعرون بكرامتهم في موطنهم بعد عقود طويلة من الظلامية الاستبدادية التي مارستها سلطة البعث وآل الأسد، وهي السلطة التي تاجرت كثيراً بالشعارات الكُبرى، لتتمكّن من الانقضاض على الداخل الوطني… الأكثر أهميةً من أيّ شيء آخر اليوم، هو أن يتجاوز السوريون الخلافات العبثية، ويتمكّنوا من توحيد صفوفهم، وتركيز طاقاتهم، واحترام الآخر المختلف ضمن إطار وحدة الشعب والوطن.
المصدر: العربي الجديد