محمود الوهب
كلّ من شاهد مقابلة قناة العربية مع أحمد الشرع، وقبلها مقابلته مع “سي أن أن”، لفته هدوء الرجل، وثقته بنفسه، وبالبديهة الدبلوماسية الملاحظة في أجوبة جاءت متّزنةً في منطقها، وفي إلمامها الواسع بموضوعات الأسئلة، بغضّ النظر عمّا إذا كانت الأسئلة معدَّة مسبقاً أم غير ذلك، فإنّها كانت مركَّزة. وقد حاول الشرع، في كثير منها، ألَّا توحي بأمر ما، وألا تُحمَّل مكنوناته التي لا تُخفَى. وبعبارة، يمكن القول إنه كان دبلوماسياً مقنعاً، وعلى غير ما هو متوقّع، إذ الراسخ في ذهن المشاهد كثير ممّا لحق بشخص الشرع، وما شاع عن تنظيمه من أحاديث تؤكّد سلفيته المُفرِطة، وتطرّفه الزائد، ولم يُغيِّر من الصورة كثيراً ما حكى عن إدلب من نظام وتطوير، واهتمام بالخدمات العامّة مثل تأمين الخبز والماء والكهرباء والوقود، ووفرة النشاط الاقتصادي، الذي يمكن أن يعطي صورةً فعليةً عن حكومته. ناهيكم عن العقوبات التي ما تزال على هيئة تحرير الشام، المتفرّعة أصلاً من تنظيم الدولة الإسلامية، والمبايعة (في وقت أسبق) أيمن الظواهري أمير تنظيم القاعدة.
ليس حكم سورية كحكم إدلب، وإن كانت إدلب تجربة ناجحةً أو نواةً كما قال أحمد الشرع نفسه
لكلّ ما ذُكِر أهمّيته، ولا بدّ أن يُؤخَذ في الحسبان عندما يحين تقييم الرجل الذي يُعِدُّ نفسه لأمر كبير ومهمّ، أبعد من لقاء تلفزيوني عابر، ولعلَّ اللقاء ذاته يجيء تحت عنوان ذلك الأمر المهمّ. وتندرج تلك الترتيبات تحت إطار ما يسمّى “الشكل”، ولكن للشكل علاقة عميقة بالمضمون، فلا مضمون من دون شكل يناسبه، وغالباً ما يشي الشكل بمضمونه. قد تكون ثلاثة أعوام لكتابة دستور، وأربعة لانتخابات نيابية ورئاسية، ضروريةً، ومبرّرة، لكنَّ مؤتمراً عدد أعضائه 1200 شخص يمثّلون المُكوّنات السورية، ووجوه فعّالياتها، وأنشطتها النوعية، يُعقد خلال يومين فقط، يمكن وصفه بأنه دعوة إلى الاستماع، والموافقة على ما هو مرسوم لسورية، أو ما سوف تكون عليه. قد يكون الوقت غير كافٍ، لكنَّ الاستماع، هذه الأيام القلقة بالذات، قد يكون ضرورة لتبادل الأطراف السورية الفِكَر والرؤى حول المرحلة المقبلة، ثمّ يجري التحضير لمؤتمر يُرسِّخ أسس النهج السوري، ويؤكّد استمراره، مؤتمر تحضره قوىً سياسيةٌ منظّمةٌ، تكون هي الأخرى قد أنضجت رؤيتها، وثبّتت وجودها وبرامجها، وتلك الترتيبات ضرورية في المرحلة الحالية، ولا تخوّف منها. في كلّ حال، ليكن ما يكون، فلا أحد ينكر على الشرع إسقاطه حكم الطاغية، بغضّ النظر عن مجريات الحدث المسبوق بمسبّبات ودواعٍ محلّية ودولية كثيرة، واستشفاف انتهاء حقبة من حياة السوريين، والتخلّص من إيران، الدولة التي تخطّت حدودها، وخرَّبت كثيراً في سورية ودول المنطقة. نعم نحن مقبلون على مرحلة قد تكون مَحْرقَةً لمن يُحمَّل أعباءها، فعلى عاتقه رسم معالم خُطاها الأولى، التي تعوّض السوريين فوات أكثر من ستّين عاماً، غيَّبها الحكم العسكري.
سيقدّم الشرع (في الفترة التحضيرية المشار إليها) خدمات تمسّ حياة الناس مباشرةً ما سيكون لها تأثير كبير في حياة الناس الذين لا يبحثون عن منافعَ سياسيةٍ، ولكن تحدّيات كثيرة ستبقى أمام الرجل، وهو مدركٌ بعضها، إذ ليس حكم سورية كحكم إدلب، وإن كانت إدلب تجربة ناجحة أو نواة كما قال الشرع نفسه. ولكنّ السؤال المهمّ: هل تتعلّق المشكلة بإنسان فرد أم بنهج عام يستند إلى أيديولوجيا محدّدة، قد لا يوجد تطابق تامّ في الرؤية والفهم بين أفراد المؤمنين بها أحياناً، فلا بدّ من تعزيز دعائم الدولة المدنية بمفهومها الأعمّ، الذي يراعي أحوال الأغلبية الساحقة من المواطنين، خاصّة في المسائل المشتركة كالمسائل التعليمية والتربوية؟ كما لا بدّ من مراعاة التطوّرات التي حدثت وتحدث في العالم لا في إدارة الدولة فحسب، بل في المنجزات العلمية المعاصرة، التي لها دور أساس في مجمل عملية التنمية، التي حرمت منها بلادنا عقوداً.
تعزيز دعائم الدولة المدنية بمفهومها الذي يراعي أحوال الأغلبية من المواطنين السوريين
وربّما، من هنا، يجيء السؤال: هل كان ثمّة ضرورة تمسّ تغيير المناهج المدرسية؟… ثمّة أمور تشير إلى الاستبداد السياسي، ورموزه، وإلى عبارات لها علاقات بما كانت تسمّى “التربية الوطنية”، التي خصَّت الوطنية بشخص وأيديولوجيا حزب معيّن، تقتضي الضرورة حذفها، لكن ثمّة تعديلات قد تمسّ تعدّديةَ المجتمع السوري، خصوصاً أن هناك توجسّاً من الإسلام السياسي، ومن بعض تجاربه، سواء في الداخل السوري، أم في عدة دول عربية، وكذلك في دول أوروبية سارعت إلى إرسال وفد لزيارة سورية ولمعاينة الحكم الجديد من كثب، وسورية في حاجة إلى الجميع اليوم. فهل كان من الضروري شرح “غير المغضوب عليهم ولا الضالين” بأن المعني بهما اليهود والنصارى؟ ألا يكفي القول إنهم المنحازون عن الحقّ والمبتعدون عن جادّة الصواب، ونحن في مرحلة لها حساسيتها؟… هناك ما يوحي بأن ثمّة تصوُّراً لا يتطابق مع غاية الثورة السورية التي قامت ضدّ استبداد فرد وأسرة، واستعباد شعب، وفساد وصل، في النهاية، إلى نهب وطن وتخريبه، إن لم نقل بيعه بالمفرّق. أولاً وأخيراً لا بدّ من تأكيد التعدّدية. وهذه لا تعني أن الأكثرية ترعى شؤون الأقلّية، بل يتوصّل الجميع إلى مشتركات يُقرّها العصر.
إننا في وضع حرج وقلق، وأكثر ما يحتاج إلى الأمن والسلام المجتمعي، وتجنيبه كلّ ما يمسّ جوهر الحرّية التي حُرِم السوريون منها سنين طويلة، وقطعاً لا يأتي الأمن من خلال الجيش أو القوة عموماً (على أهمية ذلك)، لكن الحال السورية مطلوب منها إعادة روح الحرّية إلى المجتمع السوري ليأخذ في التجدّد والتنمية وملامسة جوانب حضارة اليوم.
المصدر: العربي الجديد