علي العبد الله
أثار إسقاط النظام السوري بأيدي فصائل عسكرية سلفية التوجّه أسئلةً عن مدى قدرة النزعة السلفية، فكراً وممارسةً، على التعاطي مع الواقع السوري الراهن، ومواجهة التحدّيات القائمة فيه، وحلّ المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها الشعب، مع الأخذ بالاعتبار تداخلات هذه المشكلات وتشابكها مع مصالح المحيطَيْن، الإقليمي والدولي، بأبعادهما الجيوسياسية والجيوستراتيجية.
نشأت نزعة السلفية متأخّرةً نسبياً، إذ كانت بدايتها مع الفقيه تقيّ الدين أحمد بن تيمية، الذي عاش في القرن السابع الهجري (661 – 728هـ)، وتابع تلامذته، ابن القيم الجوزية خصوصاً، تعميق النزعة وترسيخها في الثقافة الإسلامية، إلّا أنها ضعفت وغابت من المشهد قروناً طويلة، حتى أعاد الداعية النجديّ محمّد بن عبد الوهاب بعثها في القرن الثاني عشر هجري؛ حين لاقت قبولاً لدى دعاة وفقهاء معاصرين بدأوا في التنظير لها والدعوة إلى الالتزام بها، وقد شهدت تحوّلاً عاصفاً بظهور تيّار السلفية الجهادية، الذي ظهر في الربع الأخير من القرن العشرين، ووضع معايير متشدّدة للتعامل مع المسلمين، بتكفير من لا يتّبع النزعة السلفية، وهدر دمه باعتباره مرتدّاً عن الإسلام وحدّه القتل، ومع غير المسلمين بالإفتاء باستباحة دمهم وأموالهم وسبي نسائهم وأطفالهم، وتقسيمه العالم بين فسطاطَي إيمان وكفر، إذ نفّذ أعضاؤه عمليات تفجير ضدّ مصالح دول ومجتمعات في معظم القارّات. في البدء، وقبل تقويم مدى صلاحية النزعة السلفية في تقديم حلول ومخارج للمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها سورية، لا بدّ من تحديد فحواها، وأسسها النظرية وتطبيقاتها العملية، والبحث في الخيارات والاحتمالات التي تنطوي عليها.
تقوم النزعة السلفية على خمسة أسس رئيسة؛ أولها التوحيد بمستوياته، توحيد الربوبية (الإيمان بأن لهذا الكون خالق ورازق يتصف بالكمال)، وتوحيد الألوهية (أن تكون العبودية لله وحده)، وتوحيد الأسماء والصفات (لله عز وجل أسماء وصفات لا يشاركه فيها أحد). ثانيها التعاطي مع النصّ الديني (القرآن الكريم والسُنّة النبوية المشرّفة) وفق فهم السلف في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام. ثالثها الاجتهاد في فهم النصّ الديني واستنباط الأحكام على المستوى الشخصي من دون التقيّد بتفسيرات المذاهب الفقهية المشهورة. رابعها التحرّر من البدع. أمّا خامسها فعدم الركون إلى الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
شهدت السلفية تحوّلاً عاصفاً بظهور تيّار السلفية الجهادية، الذي ظهر في الربع الأخير من القرن العشرين، ووضع معايير متشدّدة للتعامل مع المسلمين
تعكس الأسس المذكورة قراءةً خاصّةً للقرآن الكريم، قراءة من جملة قراءات عرفها الفكر الإسلامي بمدارسه المتعدّدة والمتباينة، لكن ما يجعلها مصدر قلق وتوجّس ما رُتِّب عليها من استنتاجات وممارسات، فالأساس الأول (التوحيد) ليس مقياساً لصحّة الإيمان فقط، بل ولمعاقبة الخارجين منه، فاعتبر من يخرج كلّية وشمولية من أيّ من مستوياته الثلاثة، كما يفسرونها، كافراً يستتاب أو يقتل إن بقي على موقفه، وهو قول يتناقض مع مبدأها الثاني الذي يقول باعتمادها فهم السلف الصالح للكتاب والسُنّة، فالسلف في هذه القرون اتفقوا أن أركان الإيمان ثلاثة: الألوهية، والرسالة، والميعاد، من دون تفصيل، واعتبروا من يؤمن بذلك مؤمناً، دمه وعرضه وماله حرام، ما يجعل قول فقهاء السلفية غير متّسق مع موقف السلف، من جهة، ويجعله تزيّداً غير مبرَّر، وعنتاً على المسلمين، من جهة ثانية، خاصّةً أن القرآن الكريم لم يوجّه بقتل المرتدّ، وأن النبي علية الصلاة والسلام لم يقتل مرتدّاً طيلة حياته.
يثير المبدأ الثاني جملةً من المشكلات والعقد الشائكة، فثمّة ممّا قاله سلف القرون الثلاثة ما يثير الاختلاف وينشر المشكلات والفتن، مثل قولهم بوجود نسخ في القرآن الكريم بالاستناد إلى عوار في فهم آيات قرآنية مثل قوله تعالى “ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها” (البقرة، 106)، أو قوله عزّ وجل “وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ” (النحل، 101)، إذ اعتبروا المقصود في كلمة “آية” فقرةً من سورة من سور القرآن الكريم تحمل رقماً، وهو قول ينطوي على سوء فهم، إذ معنى “آية” هنا هو دليل أو برهان، وليس فقرة من سورة. وقد وردت كلمة “آية” في القرآن الكريم 82 مرّة بمعنى علامةً، ودليل، وبرهان، وإثبات، ومعجزة، مثل قوله تعالى “وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ” (العنكبوت، 50)، ولم تأتِ بمعنى فقرة من سورة ولا مرّة واحدة، حتى الآيتان اللتان استند اليهما القائلون بالنسخ لا تفيدان (كما يقتضي السياق) فقرة من سورة، وقد أطلق عليها ذاتها كلمة “آية”، لأنها برهان على حقيقة إلهية أو وجودية أو أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية. لم يقف الضرر عند تكريس صورة غير لائقة لله عزّ وجل، لأنه غيّر في أحكامه وتوجيهاته، وهو العليم الحكيم، بل استخدم تيار السلفية الجهادية الآية: “فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (التوبة، 5)، المشهورة بآية السيف، ونسخوا بها 134 آية تتحدث عن الرحمة والحكمة والتسامح مثل قوله تعالى: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (النحل، 125)، فآية السيف وردت في سياق توجيه القرآن الكريم لحسم القتال مع مشركي قريش بعد إعطاءهم مهلةً مدّة الأشهر الحرم، والبدء بقتالهم إذا أصرّوا على موقفهم بالعداء للإسلام والمسلمين، وأن القرآن الكريم لم يوجّه بشنّ حرب هجومية، ولم يوجّه بمقاتلة المشركين، إلا إذا اعتدوا، أي أن القتال في الإسلام دفاعي؛ ودفاعي فقط. قال تعالى: “لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” (الممتحنة، 8)، وقال جلّ من قائل: “وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” (العنكبوت، 46)، حتى إنه لم يوجّه باعتزال المخالفين أو الكفار أو مقاطعتهم، قال: “وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” (الأنعام، 68)، بل ونهى عن شتم آلهة المشركين “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (الانعام، 108)، واعترف بالأديان الأخرى “آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ” (البقرة، 285)، ما يعني أن الاعتماد على فهم السلف ليس وصفةً صحيحة في جميع الحالات.
القرآن الكريم لم يوجّه بقتل المرتدّ، والنبي علية الصلاة والسلام لم يقتل مرتدّاً طيلة حياته
المبدأ الثالث، الاجتهاد في فهم النصّ الديني، واستنباط الأحكام على المستوى الشخصي من دون التقيّد بتفسيرات المذاهب الفقهية المشهورة، فيه نزعة تحرّرية من قيود التقليد، مع ملاحظة تعارضه مع المبدأ الثاني القائل بالالتزام بفهم السلف للقرآن والسُنّة. المبدآن الرابع والخامس مقبولان ولا غبار عليهما.
لقد أنجبت السلفية النظرية ولداً مشوّها، السلفية الجهادية، بمختلف تجلّياتها ومشايخها ومنظّريها، أطلقت بدورها مواقفَ، وروّجت مفاهيمَ وقيماً على الضدّ من تعاليم الإسلام وهديه، بدءاً من تكفيرها المجتمعات المسلمة لأنها لا تتبنّى المفاهيم والمعايير السلفية، وهدرها دم المخالف لها، مروراً بتكفير أتباع الديانات السماوية، وصولاً إلى الاستهانة بنصف المجتمع؛ المرآة، والحطّ من قدرها ومكانتها.
قلنا أعلاه ليس في الكتاب والسُنّة ما يقضي بقتل المرتدّ، وقد حصل أن ارتدّ مسلمون في المدينة المنورة وخرجوا عائدين إلى مكّة، وقد علم الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يُلقِ القبض عليهم ولا أقام عليهم حدّ القتل، ولا اعترض طريقهم ودعاهم إلى العودة عما قاموا به. وموقف الإسلام من أتباع الديانات الأخرى واضح وصريح، قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (البقرة، 62)، وقوله: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (المائدة، 69)، واعتبر الفصل بينهم حقّاً لله وحده، قال: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (الحج، 17). كما كان موقفه من المرأة ومكانتها ودورها لافتاً بقوّته وإيجابيته، فاعتبرها مساويةً للرجل في آدميته المرتكزة إلى وحدة الأصل، ومكلّفةً مثله، ودورها تكاملي مع دور الرجل، وليس تكميلياً كما تذهب السلفية، في ضوء اعتباره الأسرة (ذكر وأنثى) الوحدة الأساسية للمجتمع، وعدم تحديده سقفاً أو محرّمات أمام دورها، وقد كان لافتاً أن القرآن الكريم في روايته لقصّة بلقيس ملكة سبأ مع النبي سليمان، لم يعكس أيّ تحفّظ حول موقعها في رأس هرم السلطة، ملكة في بلدها، بل نقل صورةً إيجابيةً عن قيادتها لبلدها بأنها لا تأخذ قراراً إلا بعد مشاورة مجلس حكماء في المملكة، وأن كلّ ما يقال عن أدوار وقيود وحدود لدور المرأة في المجتمع هو من وضع فقهاء المسلمين، رأي/اجتهاد بشر قابل للطعن والتعديل.
استبدل عمر بن الخطاب بالخلافة لقب أمير المؤمنين، معتبراً نفسه خليفة أبي بكر وليس خليفة الرسول
لا تقف سقطات السلفية عند ما ذكرناه أعلاه، فثمة نقاط أخرى نعرضها بكثافة في النقاط التالية:
أولاً، دعوتها إلى إقامة الخلافة (دولة أمّة المسلمين، دولة فوق وطنية) باعتبارها فرضاً إسلامياً، ما يجعلها من أصول الدين، وهو مخالف لما تواضع عليه المسلمون من أصول (الألوهية، والرسالة، والميعاد)، وليس له سند صلب وواضح من النصّ الديني (القرآن الكريم)، فلم ترد في النصّ لا صراحةً ولا مداورةً، فالتسمية وُلِدت عفوياً من وصف طبيعة دور الإمام الذي تلا الرسول (خلفه في موقعه في قيادة المسلمين فهو خليفة، ثمّ وصف النظام السياسي بالخلافة)، وقد استبدل بها عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، لأنه اعتبر نفسه خليفة أبي بكر وليس خليفة الرسول، ورأى أن وصفه سيكون “خليفةَ خليفةِ رسول الله”، وأن في ذلك ركاكةً وإرباكاً. أمّا الحديث الذي يستند إليه السلفيون “ثمّ تكون خلافة على منهاج النبوة”، فلا يصلح للاحتجاج به، لأنه حديث آحاد لا يؤخذ به، رواه شخص واحد هو داود بن إبراهيم العقيلي الواسطي. والدولة لم تعد كما كانت قبل قرون دولة المَلك أو الإمبراطور أو الخليفة، بل تطوّرت وأخذت معناها الحديث مؤسّسةً تضمّ كلّ أفراد المجتمع، ولكنّها تبقى مستقلّة عن أيّ فرد أو مجموعة (شخص اعتباري)، والسيادة فيها لمجموع الشعب، وتتولّى السلطةَ الفعلية (الممارسة) حكومةٌ ملتزمةٌ بحدود ترسمها قواعد عامّة ومُجرَّدة (دستور)، مع التمييز بين السيادة والسلطة، فالسيادة أشمل من السلطة، إذ السلطة هي ممارسة السيادة، وهذا استدعى التمييز بين الدولة والسلطات المتفرّعة منها (الرئيس والحكومة والبرلمان والقضاء… إلخ)، والسيادة لا تُسنَد في الدولة الحديثة إلى شخص طبيعي، بل إلى شخوص معنوية مُجرَّدة: الأمّة والشعب والدولة والمؤسّسات، وتُسند السلطة إلى شخوص طبيعيين لممارستها نيابة عن الدولة مع تقييدها بالدستور والقوانين، فالحكومة تمارس السلطة نيابةً عن الدولة، والسلطة التنفيذية تنفّذ التشريعات والقوانين التي تصدرها السلطة التشريعية (البرلمان)، والسلطة التشريعية تكلّف السلطة التنفيذية وتحاسبها، والسلطة القضائية تراقب دستورية القوانين وتقوّم الممارسة في السلطتين التنفيذية والتشريعية. فالدولة، ذلك الشخص الاعتباري الذي يتجسّد بالدستور والسلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، توكِل سلطتَها إلى من ينوب عنها في ممارستها، فالرئيس والحكومة والبرلمان والقضاء ليسوا أصحاب سيادة أصلاء، بل وكلاء الدولة في ممارسة السيادة، إنهم مفوَّضون من الدولة وليسوا أصحاب سيادة ذاتية، لقد مُنحوا حقّ إصدار القوانين، واحتكار حيازة وسائل الإكراه، وحقّ استخدامها في سبيل تطبيق القوانين، بهدف تأمين السلم والنظام، وتمكين التقدّم في الداخل والأمن من العدوان الخارجي.
ثانياً، عدم وجود تصوّر سلفي يلحظ ويتعاطى مع العالم المعاصر، وما فيه من قضايا ومسائل ومشكلات، تؤثّر في حياة الإنسان بشكل عام، والمسلم بشكل خاصّ، فالتصور السلفي فقير في مكوّناته، وغريب عن عالم اليوم، نتيجة استغراقه في الماضي، والانطلاق من نظرة نكوصية ترى القرون الأولى أفضل القرون، وتبدأ الحالة بالانحدار مع التقدّم في الزمان. ولذا، فهي غير قادرة على التعاطي مع الحاضر والمستقبل، وغير قادرة على طرح نموذج سياسي مقنع وجذّاب، ما لم تكسر قواعد نظرتها، وتنطلق من فهم التاريخ، واكتشاف السُنَن، والتطلّع إلى المستقبل من خلال احتياجات الإنسان الذي بُعِث الأنبياء لمساعدته على التحرّر والعيش في ظروف مريحة وإيجابية، فالدين جاء لخدمة الإنسان وليس العكس.
ثالثاً، عدم وجود تصوّر سلفي للتعاطي مع المُختلِف دينياً ومذهبياً، وتمسّك التيار بفقهِ أزمات قائم على فكرة الدفاع والمواجهة، ما جعله عاجزاً عن التعايش مع مجتمع تعدّدي ومفتوح، وانحيازه للصدام والعنف، في حالة لا تتسق مع منطق الدولة، أيّ دولة، فما بالك بالدولة الحديثة.
النظر إلى أتباع الديانات والمذاهب الأخرى أخوةَ إيمان سيفتح الطريق للتماسك الوطني
يشير الكلام أعلاه إلى عدم صلاحية النزعة السلفية خياراً للتعاطي مع العالم الحديث، والنهوض بواقع المسلمين المُزري، ما يستدعي العودة إلى الإسلام الأول المنسجم مع فطرة الإنسان، والتخلّي عن العنعنة الركيكة، فثقافة قال الله وقال الرسول، على مكانتها وتقديرها، ليست كافيةً بذاتها، لأنّها هي ذاتها تركت قضايا من دون تفصيل، وأخرى من دون توجيه محدّد، تركتها للمسلمين كي يُمعنوا النظر ويجتهدوا في فهمها، ووضع خطط وبرامج يواجهون بها واقعهم، ويحلّون بها المشكلات التي تواجههم كي يعيشوا عيشة هانئةً وسعيدةً. لعلّ أول القضايا التي تُرِكت لاجتهادهم قضية الشورى التي لم ينجح السلف في تقنينها، واختلفوا حول هل هي معلمة أم ملزمة، مع أن الهَدي القرآني جازم في الزاميتها، إذ قال: “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” (الشورى، 38)، ومطالبته للرسول بمشاورة المسلمين: “فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ” (آل عمران، 159).
إعادة نظر في منطلقات السلفية، وتطوير مفاهيمها، عبر قراءة النصّ الديني المؤسّس (القرآن الكريم) قراءةً قائمةً على الموضوعات واستكشاف القيم الإيجابية العظيمة فيه، ضرورة حيوية للخروج من عنق الزجاجة، والانفتاح على الواقع والمستقبل، وتكريس قواسمَ مشتركة مع الآخر المختلف، فتقنين الشورى ومأسستها مثلاً سيقودان إلى الكشف عن تقاطعها الواسع مع الديمقراطية في إدارة الاجتماع السياسي، والنظر إلى أتباع الديانات والمذاهب الأخرى أخوةَ إيمان، سيفتح الطريق للتماسك الوطني، وتحديد موقع المرأة ودورها الحقيقي سيتيح وضع قوى المجتمع وقدراته في معركة البناء والنماء، والتصرّف بدلالة الوطن سيعزّز سيادة الوطن ورسوخه.
المصدر: العربي الجديد