أحمد الشمام
لا يخفى على أي مهتم بدراسة الثورات كتاب المؤرخ الأميركي “كرين برنتن تشريح الثورة”، والذي ناقش فيه أربع ثورات هي الفرنسية، الأميركية، البلشفية، والحرب الأهلية في إنكلترا. وقد وضع نمطا عاما للثورات تبدأ بالرفض والتمرد والحمى، ثم تمر بالعنف، ثم الافتراق الداخلي بين تشدد واعتدال، تختتم بتغير الوجوه وعودة نظام الحكم كما سبق بوجوه جديدة مع تغير طفيف.
يبدو ذلك النمط في ترتيب وتحقيب مراحل الثورات معتمدا ورائجا في مستوى الخط العام للتحولات التي تصيبها، لكن انتقادات كثيرة طالت الكتاب وقد أضاف الكاتب لاحقا تعديلات عديدة؛ منوها بعدم وجود حالة نمطية واحدة تخضع لها الثورات مع اشتراكها في الخط العام الذي ذكره، غير أنه لايمكن تجاوز واقع مهم يتعلق بتلك الدراسة وهو أن رؤيته و نتائجه قد بنيت انطلاقا من دراسة ثورات حدثت قبل 1945م، يبدو ذلك مبررا في حينه لعاملين أحدهما عدم وجود ثورات هزت بلادا كتلك، وسابقا على الحراك الذي أسقط الشيوعية في الاتحاد السوفياتي وشرقي أوربا بعد سقوط جدار برلين من جهة، ومن جهة أخرى ماعادت أ ي دراسة في الغالب خارجة عن أطر الاستثمار، والتدخل الخارجي بما في ذلك النظام العالمي الجديد وآفاق التحكم وأطر الهيمنة، تلك التحديات التي لو طالت الثورة الفرنسية التي صدرت قيمها للعالم رغم المجازر التي ارتكبتها لما نجحت، إذ شاع في الثورة الفرنسية بناء المقاصل والمحاكم الميدانية، وراديكالية ما تشكل تحت بند الشرعية الثورية كرست فكرة أن تأكل الثورة أبناءها، حتى كتبت حنا أرندت ” الحقيقة المحزنة.. هي أن الثورة الفرنسية التي انتهت بكارثة صنعت تاريخًا عالميًا، في حين أن الثورة الأميركية (1776) التي كانت مظفرة في نجاحها قد ظلت حدثا لا تتجاوز أهميته المحلية إلا قليلًا”، اقتربت حنا أرندت من روح الثورة ورصدت القيم والدوافع الحقيقية لها، أدواتها، قياداتها، والفعل الحشدي الذي يمكن استغلاله وتجييره ليكون أداة ووقودا يتم الالتفاف عليه كما حصل في الثورة البلشفية؛ التي أسمت الباحثة قادتها بمغفلي التاريخ، كما تلمست حنا أرندت قيمة مهمة للثورة بتمييزها بين التحرر وبين الحرية حيث “تأسيس الحرية يشبه تأسيس الدساتير، فالأولى تحتاج إلى روح ثورية، في حين يحتاج الثاني إلى كيان سياسي يمتلك مشروعية التأسيس..وإذا كانت الدساتير هي المحصلة النهائية للثورات، فإن الهدف النهائي التأسيسي للثورة هو الحرية، وكلاهما: الدستور والحرية، لا يمكن بلوغهما إلا من خلال كيان سياسي جديد، يعلن بداية فعل تأسيس يكون الأساس الأول والأخير لصناعة الدستور وتكوين الحرية: إنه فعل الثورة”.
أمام ذلك كله عربيا -مشرقيا فإن دولنا التي خضعت للاستعمار وتحررت، قد بقيت جزءا من المجال الكولونيالي الجديد بدءا من قفزة العسكر إلى السلطة في معظمها، وعانت الشعوب العسف والتجهيل والعبودية، فانتفضت للانعتاق سعيا لبناء الدولة الحرة وتحقيق العدالة واندلعت بثوراتها المستحيلة؛ سرعان ما تم إفشالها بسبب التدخل الخارجي الذي دعم مايسمى بالثورة المضادة؛ لإعادة الشعوب إلى حظيرة الحكم القديم بوجوه جديدة. أمام هذه الالتفافة لتكريس الهيمنة من جديد، ولأجل تدجين من لم يثُر من شعوب مجاورة؛ صرنا نجد في المجال الثقافي العربي تبريرا له عبر التنظير لما أورده كرين برنتن في كتابه المذكور، كما صرنا نجده في الدعاية المضادة لثورة الشعب السوري بعد انتصارها غير المسبوق؛ عبر الحديث عن احتكار السلطة والتخويف من العنف بعد انتصار الثوار، هنا نقف وجها لوجه مع فكرة تم تسويقها سياسيا -حتى قبل يوم من التحرير- عبر نزعة واقعية وبراغماتية تقول بالممكن والخضوع له، متجاهلين شكلا آخر من الواقعية والبراغماتية قد أنجز المستحيلات من دون سطوة التخذيل تلك، فالواقعية التي تم التنظير لها غربيا وجدت متنفسا لدحض الواقع المر والثورة عليه عبر الإيمان بأيديولوجيا أو دين، وكلاهما صورة عن انبثاق الإيمان / الميتافيزيقيا قبالة التشاؤم الذي يشهره الواقع بوجوهنا عند حالة العجز المعمم وحضيض الاستنقاع، كما كتب وليم جيمس “عند مواجهة المشكلة، ستقدَّم إليك الفلسفة التجريبية -أو الواقعية- ولكنك ستجد أنه ليس فيها من الدين ما يكفي لاحتياجاتك، وستقدم إليك الفلسفة الدينية – ميتافيزيقيا – ولكنك لن تجد فيها شيئًا من التجريبية يشبع احتياجاتك” ليبدو المزيج بين الاثنتين مضمارا للعمل الجاد فما الذي يمكن استنتاجه من نمط ثورات المشرق، أو بلاد الشام عبر دراسات لم تنل حصتها من الضوء؟.
وينبثق السؤال المقلق هل يمكن لمؤمنين مسلمين أن ينجزوا نصرا ورؤية للدولة الحديثة مؤسسيا؟
وينبثق السؤال المقلق هل يمكن لمؤمنين مسلمين أن ينجزوا نصرا ورؤية للدولة الحديثة مؤسسيا؟ نجد الحل في قراءات في تجارب سابقة بعيدا عن شرقنا كما في التجربة الإنكليزية وفقا لتحليلات كثيرة، إذ توجد قراءات خرجت عن رؤية تشريح الثورة لكرين برنتن، واقتربت نحو مفاصل مهمة تم تجاوزها تدلنا على مؤشرات جديدة، وقد حلل علي عزت بيغوفيتش الثورات التي اكتسحت أوربا وأميركا، واستعان بدراسات لباحثين كثر لم يكونوا أقل قدرة في ابتداع رؤى جديدة تسهم في فهم الثورات، كما أثبت الكاتب الإنكليزي الاشتراكي كروسمان أن “الديمقراطية البريطانية كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنضال من أجل الحرية الدينية. فتم تهذيب الوازع الديني في شكله المسيحي الأصلي من أجل الديمقراطية، وكان انتصار الليبرالية مؤديًا إلى تجديد الدين في إنكلترا العصر الڤكتوري… في حين نجد التقدم والديمقراطية عند الليبراليين الألمان والإيطاليين، هي موضوعات قاصرة على النزعة العلمانية. فالمؤمنون بالكاثوليكية يعتقدون أنه لا يوجد جسر على الثغرة الفارقة بين الإيمان والتقدم”، مثلما أن الاشتراكية الإنكليزية هي الأخرى من نوع مختلف عن نظيراتها في أوربا. فالاشتراكية في أوربا مرتبطة ارتباطا وثيقا بالفلسفة المادية والإلحادية، إذ “نستمع من منصة حزب العمال البريطاني اقتباسات من الكتاب المقدس مثلما نسمعها من منبر الكنيسة هناك” كما يتناقلها بعض الصحفيين، ورصدها بالتحليل والنقد بيغوفتش في كتابه “الإسلام بين الغرب والشرق”. وتناول أثر الدين في السياسة والمجتمع.
إن نمطا إنكليزيا يظهر عبر دراسات كثيرة تتميز بها بريطانيا عن جوارها؛ حيث اتخذت نمطا معتدلا وسطيا، فقد حافظت على الدين في مرحلة الثورات ضده بين ماركسية وداروينية، وكانت تمثل نمطا مفرطا ومتحللا للدين وحضوره في المجال العام والسياسي؛ عندما كانت أوربا تقبع تحت رحى التشدد المذهبي، وبقيت ملتزمة التوجه ذاته المختلف عن النمط الأوربي، وأبقت عليه فيما بعد عندما ذهبت دول أوربا الشرقية للغرق بالأيديولوجيا الماركسية، وذهبت دولها الغربية للغرق في موجة العلمانية المخالفة للدين أو المحاربة له تبعا لأيدولوجيا لائكية كما في فرنسا، فقدمت بريطانيا نمطا مغايرا وهو ما ظهر حتى في الثورة البريطانية عندما أنجزت نصف الأهداف وفقا لدراسين كثر؛ وتركت للتحول المجتمعي والمدني أن يكمل المهمة؛ محافظة على النمط الإنكليزي المعتدل وهو ما يفسر في جزء منه قَسَم ملك بريطانيا لخدمة الكنيسة عند توليه العرش منذ عامين، ما أثار الصدمة لدى علمانيينا العرب، ويسارنا التقليدي المتخشب في خطابات الماركسية الآفلة.
نصف الأهداف هذا أو الاعتدال والوسطية التي شهدته بريطانيا، يسترعي الانتباه لما قام به إسلاميون من تتويج أربعة عشر عاما من ثورة اشترك بها الجميع بالنصر، واستطاعت أن تزيح حكم الأسد، وتطلق دعوتها لبناء الدولة الحديثة المدنية وذهنية شراكة مع جميع الطوائف والأديان في المجتمع السوري، قبالة ذلك يتساءل المرء هل تحمل الشام -سوريا نمطها الخاص كما حفلت به بريطانيا تاريخيا؟ سواء على مستوى الشكل الجديد لما أظهرته هيئة تحرير الشام في إدراتها غرفة العمليات وحرب التحرير، ثم وهي في سدة الحكم الانتقالي الحالية إذ تفتح باب العمل السياسي الحر للشعب السوري، لنتساءل هل يمثل العمل المتميز تحولا في الرؤية الإسلامية الجهادية؟ هل تخيل الباحثون أن كتلة جهادية في ساح الحرب تصبح مدنية تعددية في دعوتها للعمل المدني الحر المتعدد كما تقدمت به من تصريحات؟ قبالة ذلك هل يستطيع يسارنا الخشبي الخروج من سردياته القديمة، وشعبويته ومن هويته في تعريفها الضيق كند للدين وأهله؟ ذاك سؤال برسم الجميع.
المصدر: تلفزيون سوريا