محمود الريماوي
كان مفاجئاً أن تفرض الإدارة الأميركية الحالية، قبل أيام من انتهاء ولايتها، عقوبات على قوات الدعم السريع في السودان ومتزعّمها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، فقد دأبت واشنطن على اتخاذ مواقف وسطيّة بشأن النزاع السوداني، وغضّت النظر في الغالب عن تجاوزات جسيمة ترتكبها قوات التمرّد، واقتصرت مواقفها على الدعوات إلى وقف إطلاق النار وإجراء مفاوضات مباشرة بين المؤسّسة العسكرية وقوات المتمرّدين، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية. وهو ما كان يثير انتقادات الحكومة السودانية التي تكافح لهزيمة التمرّد العسكري، وإبعاد شبح المجاعة والأوبئة عن ملايين السودانيين الذين اكتووا بنيران الحرب منذ اندلاعها يوم 15 إبريل/ نيسان 2023. ومع فرض هذه العقوبات على حميدتي وعلى سبع شركات مرتبطة بتوريد الأسلحة لقواته، فقد صنّفت إدارة بايدن الجرائم المرتكبة من قوات الدعم السريع “إبادةً جماعيةً”، وفي هذا الصدد، ورد في بيان وزير الخارجية أنتوني بلينكن أن “قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها واصلت شنّ هجمات مباشرة ضدّ المدنيين. لقد قتلت قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة رجالاً وصِبية (حتى الرُضّع) بشكل منهجي وعلى أساس عرقي”. هذه النبرة الساخطة على الجرائم التي تُقترَف بحقّ المدنيين تبدو غريبةً بعض الشيء على الوزير بلينكن ورئيسه. فمند أواخر العام 2023، أبدت الإدارة تجاهلاً تاماً لهذه الجرائم في منطقتنا باستثناء ما وقع في 7 أكتوبر (2023) في مستوطنات غلاف غزّة، أمّا الأحداث التالية لهذا التاريخ التي تعرّض لها قطاع غزّة، فجوبهت باستخفاف من واشنطن، وبتوجيه دعم سخي، مالي وتسليحي، لمجرمي الحرب، جنباً إلى جنب مع تعاظم فصول حرب الإبادة التي لم تتوقّف بعد بفضل الدعم الأميركي (والبريطاني والألماني).
سوف يشهد التاريخ السياسي للصراعات في عالمنا أن واشنطن في عهد الديمقراطي جو بايدن انخرطت في دعم حرب إبادة
كان غريباً بالفعل أن يتطرّق بلينكن إلى إبادة جماعية تقع في عالمنا وفي زماننا هذا، بينما واظب هو ورئيسه وأركان الإدارة 15 شهراً على مخالفة تقييم الأمم المتحدة ووكالاتها ومواقف محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية والمنظمات الحقوقية والإنسانية، التي صنّفت الجرائم الإسرائيلية ضدّ المدنيين والمرافق المدنية بأنها جرائم حرب وإبادة جماعية وشكل من أشكال التطهير العرقي، وهو ما بدر من مستشار الأمن القومي جون كيربي، الذي نفى أخيراً أن يكون التدمير الشامل لقطاع غزّة على رؤوس أبنائه حرب إبادة، وهو موقف أقلّ ما يقال فيه إنه يستخفّ بعقول البشر، مع أنه قد أمكن، من ناحية ثانية، لأركان إدارة بايدن ملاحظة أن جرائمَ مُشينةً تقع في السودان، ويذهب ضحيّتها آلاف الناس الأبرياء مع استشراء مخاطر المجاعة وانهيار المنظومة الصحّية ونزوح الملايين من مناطق سكناهم. وحسناً فعلت هذه الإدارة بفرض عقوبات مستحقّة على “الدعم السريع”، رغم قناعة كثرة من السودانيين بأن هذه القرارات سوف يكون تأثيرها محدوداً في مجرى الصراع الحالي، وأن نتائجها قد تظهر في وقت لاحق في انفضاض القوى السياسية المحلّية عن قوات الدعم وزعيمها، ما يعزّز الحاجة إلى إصدار قرارات أممية مماثلة عن مجلس الأمن بهذا الشأن وبحيث لا ينحصر فرض العقوبات على واشنطن، وقد عرف مجلس الأمن في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 نقاشاً وتصويتاً على مشروع قرار بريطاني مدعوم من سيراليون لوقف إطلاق النار في السودان وتسهيل وصول المساعدات، وتضمن مشروع القرار إدانة جزئية وجانبية لقوات الدعم السريع. وقد أفشلت روسيا مشروع القرار، فيما بقيت المواقف على حالها في الحديث عن طرفَي النزاع وفي المساواة بين القوات المسلحة الشرعية وقوات التمرد المعروفة (إلى جانب تمرّدها) بتعدّياتها الجسيمة على المدنيين، بما في ذلك ارتكاب جرائم الاغتصاب.
تشكو العقوبات الأميركية من خلل بنيوي وعطب جوهري وتفتقد المصداقية
ورغم أن العقوبات الأميركية أخيراً تتقدّم خطوةً إلى الأمام بفرض عقوبات على الطرف المعتدي، صاحب السجلّ الأسود في الانتهاكات، إلا أنها تشكو من خلل بنيوي وعطب جوهري، فمصداقية الطرف الدولي صاحب القرارات مثلومة ومطعون فيها، وبالذات في ما يتعلّق بحروب الإبادة والموقف السياسي منها. فقد أسهم الطرف الأميركي في دعم الحرب على غزّة، ومنع إدانة الطرف القائم بهذه الحرب، وبينما تنادَى العالم ووجّه دعواتٍ لم تنقطع لوقف إطلاق النار في غزّة، فإن إدارة بايدن لم تجد ما تفعله سوى توجيه المزيد من الدعم التسليحي والمالي والدبلوماسي للمرتكبين، وعلى نحو وضعت فيه هذه الإدارة نفسها في موضع الشراكة باقتراف هذه الحرب، التي انتهكت (وما زالت) تنتهك سائر القوانين والقواعد الدولية، وعلى حدّ تعبير مسؤول في الأمم المتحدة، هو مفوض وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني، فإنه لم يبقَ قانون دولي إلا وجرى انتهاكه بحقّ أبناء غزّة، ما جعل هذه المأساة المتواصلة واحدةً من أكبر الكوارث الإنسانية التي صنعها بشر في عصرنا الحديث. يصعب والحالة هذه على أيّ طفل التصديق بأن إدرة بايدن معنية بحياة البشر وكرامتهم في السودان أو في أي مكان آخر، بعد أن قدّمت نموذجاً استثنائياً في ازدواجية المعايير وتضاربها، وهو ما جهر به دبلوماسيون ومسؤولون أميركيون من غير أن تتراجع هذه الإدارة عن موقفها السقيم، الذي لا يعبأ باستهداف المدنيين، ولا يدعو إلى التوقّف عن قتلهم، وفي سياسة ثابتة، فإنه يمتنع عن إدانة الجرائم اليومية المرتكبة وضحاياها بعشرات الآلاف، ومن ضمن الضحايا آلاف النساء والأطفال والرضّع.
سوف يشهد التاريخ السياسي للصراعات في عالمنا أن واشنطن في عهد الديمقراطي جو بايدن انخرطت في دعم حرب إبادة شنّتها حكومة أقصى اليمين المتطرّف في تلّ أبيب ضدّ أكثر من مليونين من أبناء القطاع، وقد تركت واشنطن الضحايا وذويهم من دون أي عون وسند أمام الحرب الوحشية، وأنها عُنيت فقط بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لدى “حماس”، من دون أن تأتي على ذكر الأسرى الفلسطينيين لدى الاحتلال الإسرائيلي، أو سكّان قطاع غزّة المحاصرين، الذين تتسلّط عليهم آلة الحرب والقتل على مدار الساعة، وهو ما يعرفه السودانيون والأميركيون مثل بقية شعوب العالم.
المصدر: العربي الجديد