محمد صبرا
أنجزت الثورة السورية، الخطوة الأولى اللازمة والضرورية من أجل الوصول إلى الحرية، وهي خطوة التحرر من الاستعباد والاستبداد بإسقاط نظام المجرم الهارب، لكن عملية الوصول إلى الحرية ليست ميكانيكية بمعنى أن التحرر لا يفضي بالضرورة إلى الحرية لاختلاف المجال والفواعل بين الحالتين، فإذا كان التحرر هو فعل جماعي تقوم به مجموعة من الناس
“فئة- طبقة” ويهدف إلى كسر أغلال الاستبداد، وفتح المجال العام أمام تشكيل حكومة جديدة غير تلك التي كانت تهدر الحقوق وتستعبد الناس، فإن الحرية هي التجسيد القانوني والحقوقي للأفراد في الدولة التي سيتم تشكيلها في مرحلة ما بعد التحرر، أي إنها التعبير عن التعاقد الفردي مع الدولة والذي يتيح -من خلال هذا التعاقد المعبر عنه برابطة المواطنة- للفرد التمتع بكل الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية في الدولة، وتحمل الواجبات التي ينظمها القانون.
في التجارب التاريخية المختلفة للشعوب رأينا أن عملية الانتقال من التحرر إلى الحرية ليست عملية مضمونة، حيث أفرزت بعض التجارب أنظمة حكم أشد قسوة واستبدادا من الأنظمة التي أطاحت بها ثورات شعبية أو حركات تمرد وانقلابات، ولذلك نشدد أن ما تعيشه سوريا الآن يمثل حالة فريدة وفرصة تاريخية لإعادة تشكيل الاجتماع السياسي السوري من خلال المؤتمر العام للحوار الوطني، وهذه الفرصة لم تتح للسوريين منذ قرن مضى أو يزيد قليلا، عندما اجتمعوا في المؤتمر السوري العام الأول في عام 1918، وبالتالي فإن فكرة الاستعجال بالذهاب لمؤتمر حوار وطني من دون التحضير الجيد له، ومن دون أن يكون الوسط الإجرائي والموضوعي الذي سيعقد فيه هذا المؤتمر منضبطاً، ومحدداً بشكل واضح، سيمثل مغامرة أو لنقل مقامرة في هذه الفرصة التاريخية، والتي قد لا تتكرر إلا بعد عقود طويلة، سيرافقها بالضرورة الكثير من الآلام والتضحيات.
سينتج الحوار بين الجماعات بالضرورة نظاماً هشاً قائماً على توافقات مرحلية لن تمنع تجدد ظاهرة الاستبداد، ولا سيما أن كل جماعة تحاول أن تفكر بمنطق انعزالي عن الجماعات الأخرى
إشكالية النقاش السوري الحالي بين تحرر الجماعة وحرية الفرد
ينتمي أغلب النقاش السياسي السوري الحالي، إلى حقل التحرر ولم ينتقل إلى الحديث عن الحرية، فالجماعات السورية (وسنستخدم مصطلح الجماعات كبديل عن الطوائف والإثنيات، لأن مفهوم الطائفة أو القوم هو مفهوم اجتماعي يحيل للعلوم الاجتماعية، بينما فضلنا استخدام مصطلح الجماعة نتيجة محاولات تحويل الطوائف إلى هويات سياسية لها مطالب خاصة تتجاوز مطلب حرية ممارسة الشعائر الدينية إلى مطالب بإدارة مناطق جغرافية معينة، وكذلك في الجماعات القومية التي تجاوزت مطالب الهوية الثقافية واللغوية المختلفة إلى مطالب تتعلق بتقسيم الثروة والسلطة)، إذاً الجماعات السورية المختلفة تتحدث جميعها في إطار التحرر مع إهدار كامل للحديث عن الحرية، فالجماعة السنية ترى أنها أنجزت الثورة وحققت تحررها الكامل من نظام حكم وحشي اضطهدها وقتل وعذب وهجر الملايين من أبنائها، وبالتالي فإن عملية التحرر هذه، أي الإطاحة بالنظام المجرم، يكفي بحد ذاته للقول إن الثورة أنجزت ما عليها، وإنها في وضع قد وصلت فيه إلى ما تريد، في المقابل فإن الجماعات الأخرى مثل الجماعة المسيحية والدرزية والعلوية إضافة إلى الجماعة الكردية، يطالبون بضمانات ليس بصفتهم أفراداً مواطنين في الدولة الجديدة التي ستنتج بعد الثورة، بل بصفتهم جماعات ذات هوية مختلفة، بل وذات نمط حياة مختلف، بحسب تعبير شيخ عقل طائفة الدروز، وبحسب تعبير بعض آباء الكنيسة، والإشكالية هنا أن الخطاب الذي تقدمه الإدارة السورية الانتقالية بقيادة أحمد الشرع يعزز مثل هذا المناخ، حيث تحدث الشرع في أكثر من مناسبة عن ضمان حقوق الأقليات، وأن نمط حياتهم لن يُمس، كذلك فإن الضغوط الغربية وتحديداً الأوروبية تعزز مثل هذا المناخ عند الحديث عن حقوق الأقليات وعن ضرورة مشاركة الجميع في قيادة المرحلة الانتقالية، والجميع هنا لا تعني الأفراد، بل تعني الجماعات الدينية والعرقية.
ضمن هذا المناخ فإن الحوار الوطني الذي تتم الدعوة إليه سيكون عبارة عن حوار بين جماعات متمايزة عن بعضها البعض، وليس بين أفرادٍ يسعون إلى تنظيم اجتماعهم السياسي عبر إقرار لوائح قانونية تصون وتضمن حرياتهم كأفراد في دولة واحدة تكون لكل مواطنيها، وتستغرق كل مصالحهم وتجيب على كل هواجسهم.
سينتج الحوار بين الجماعات بالضرورة نظاماً هشاً قائماً على توافقات مرحلية لن تمنع تجدد ظاهرة الاستبداد، ولا سيما أن كل جماعة تحاول أن تفكر بمنطق انعزالي عن الجماعات الأخرى، بحيث لا يهمها ما يحدث في الفضاء العام ما دامت الدولة الجديدة ستؤمن فضاءها الخاص كجماعة، أو كما يطالب البعض “بأن نحكم مناطقنا بأنفسنا”.
مؤتمر الحوار الوطني كأساس لبناء الحرية
لا يكفي أن نتحدث بشكل عام وبجمل مكررة حول أهمية مؤتمر الحوار الوطني، وأنه سيكون الأساس في بناء الدولة الوطنية، من دون أن نحدد العوائق التي تعوق وصول هذا المؤتمر للأهداف المرجوة منه، ومن دون تحديد هذه الأهداف التي يجب تحقيقها من خلاله.
معوقات مؤتمر الحوار الوطني
هناك معوقات كثيرة ما تزال تشكل إما عائقاً أمام انعقاد المؤتمر بحد ذاته، أو أنها تشكل مخاطر حقيقية على جدية هذا المؤتمر وقدرته على الوصول لأهدافه المتمثلة في إعادة إنتاج النظام السياسي في سوريا، ومن أهم هذه العوائق:
- انتشار السلاح بكثافة سواء بين الأفراد أو مع “الفصائل العسكرية بغض النظر عن توجهها”، لأن أي عملية حوار تحت ظل السلاح ستبقى محفوفة بالمخاطر المتمثلة في إمكانية انزلاق الوضع في سوريا نحو العنف، وقد يقول قائل إن مؤتمر الحوار الوطني ضروري لنزع سلاح المجموعات المسلحة، لكن هنا تثور أيضا مخاوف من أن الجماعات المختلفة ستستقوي بالسلاح لفرض رؤيتها ومطالبها، فوجود السلاح بحد ذاته يمثل إغراء كبيرا لهذه الجماعات لتشديد ما تريد وللتعامل مع الفضاء العام بمنطق أننا “نستطيع”، وقد سمعنا خلال الأيام الماضية، تصريحات لأطراف مختلفة تتحدث عن رفض إلقاء السلاح إلا بعد تحقق شروط معينة، وهذا يعني أن بعض الأطراف ترى في السلاح نوعا من الضمانة لفرض مطالبها، ما يُخرج مؤتمر الحوار بحد ذاته عن مضمونه وهدفه، باعتباره مؤتمرا تأسيسيا لإعادة إنتاج النظام السياسي بعيدا عن منطق التغلب والقوة والعنف، كذلك فإن وجود السلاح بحد ذاته، يلغي الفرد لصالح الجماعة، لأنه سيقع فريسة تفاهمات ومحاصصات بين جماعات مختلفة، وهو ما حدث في العراق، حيث حصلت الجماعات المختلفة على حقوقها دستورياً لكن الفرد العراقي سواء كان شيعياً أو سنياً أو كردياً وقع ضحية قيادات هذه الجماعات والأطراف التي تدعي تمثيلها.
- عدم وجود لجنة تحضيرية، تتمتع بالشفافية والتنوع والكفاءة، والتنوع الذي نتحدث عنه ليس تنوعاً طائفياً أو عرقياً أو مذهبياً، بل التنوع في التيارات السياسية الكبرى في سوريا، سواء التيارات المحافظة أو القومية أو الليبرالية أو اليسارية، وهنا لا نتحدث عن قوى سياسية بعينها بل عن تيارات كبرى، بحيث إنه لا يشترط لمن يتبنى الفكر المحافظ أو الليبرالي أن يكون عضواً في أي جماعة سياسية، والتنوع في اللجنة التحضيرية هو ضمانة أساسية، لنجاح المؤتمر، ولضمان عدم احتكار الإدارة الانتقالية للمؤتمر وعدم التحكم بمخرجاته.
- عدم وجود إطار إجرائي يضبط عملية الحوار الوطني، ويحدد آلياته، وهذا الإطار الإجرائي ضروري أن يتم إنجازه كعملية سابقة لانعقاد المؤتمر، بحيث يكون لدى أعضاء المؤتمر رؤية واضحة لمعايير التمثيل والعضوية في المؤتمر، وآليات النقاش ونظام التصويت وكيفية فض النزاعات، وآليات حسم الخلافات على القضايا الكبرى، سواء في داخل المؤتمر أو عبر الاحتكام لإرادة المواطنين، والإطار الإجرائي المناسب يجب أن تضعه اللجنة التحضيرية للمؤتمر وأن تعرضه للنقاش العام قبل فترة مناسبة لانعقاده.
ختاما فإن كل ما يدور من حديث عن انعقاد مؤتمر الحوار الوطني وأنه سيضم عددا كبيرا من السوريين، لا يصب في الهدف الأساسي، فجمع آلاف الناس أو مئات منهم في مكان واحد لا يعني بالضرورة أن هذا الاجتماع يمثل حوارا وطنياً، فالذهاب إلى مؤتمر من دون تحديد الهدف الأساسي له، ومن دون وجود لجنة تحضيرية متنوعة وشفافة، ومن دون تحديد لائحة إجرائية واضحة تحكم عملية التمثيل والمخرجات وكيفية فض النزاعات وطرق حسم الخلافات يعني أننا نذهب إلى المجهول، ولا سيما في ظل وجود السلاح وفي ظل استقواء البعض بهذا السلاح لفرض شروطه ومطالبه.
المصدر: تلفزيون سوريا