معن البياري
لولاها يدُ المنون، لكتبً الصديق عيسى الشعيبي (1946 – 2025)، اليوم في هذا المطرح في “العربي الجديد” في عمودِه المنتظم (كل ثلاثاء) عن اتفاق غزّة بمراحله الثلاث. ولولا أنني ما كنتُ سأفلح لو تمثّلتُ الزميل الراحل، وغامرتُ، وكتبتُ هنا، بلغتٍه ومخيّلته ومُفردته، ثم وقّعتُ المقالة باسمه، لكنتُ فعلتُ هذا، قبل أن أذيّلها بإيضاح الخُدعة. ولكنني في الأصل ما كنتُ سأفعل، لأن مقالةً مثل هذه لن تبلُغ المنزلة العالية التي تأتّت لمقالة أستاذنا الباقي، والذي أتذكّرني أقرأُه في صحيفة الدستور الأردنية، قبل 37 عاماً، فأجدُني، أنا العشرينيُّ إذّاك، منجذباً إلى إيقاعات مقالاته، وإلى أناقة جُملته في بسط فكرته، ربما لأن سمْت المثقّف، واتّساع معجمه، بلغةٍ تتغلف بقدْرٍ هنا وهناك من المكر، في هذه الإحالة أو تلك إلى هذا الأمر وذاك، فثمّة معرفةٌ بالتاريخيْن البعيد والقريب، وإحاطةٌ بالموضوعة، ودرايةٌ بسقوف المنبر وكمائن مقصّات المحرّرين المتوجّسين من هذه العبارة وغيرها. ولمّا عرّفني مؤنس الرزّاز على صديقه عيسى الشعيبي، سريعاً توثّقت الصداقة الوطيدة، وركب المزاجُ على المزاج، رغم المسافة بين عمريْنا، وهو الذي ينتسب شبابُه إلى الستينيّات القاهرية المتّقدة، حيث دراسته الجامعية الإدارة والتجارة، ثم السبعينيّات البيروتية، حيث عمل في مركز الأبحاث التابع لمنظمّة التحرير، ثم بعض الثمانينيّات الخليجية، وطاف قلمُه في صحفٍ ودورياتٍ ومنابر عديدة، مع بعض الوقت عمل فيه موظّفاً في بنك (أو أكثر) في عمّان التي استقرّ فيها.
ماذا كان عيسى الشعيبي سيرى في اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة لو كتبََ عنه اليوم هنا؟ لا حاجة لقراءةٍ في الرّمل، لتوقن أنه كان سيرى فيه إنجازاً للمقاومة الفلسطينية فرضته على العدو، ممثلاً بمجرم الحرب نتنياهو. وصديقُنا الباقي الذي ظلّ يوصف معتدلاً في مواقفه السياسية، وصاحب مزاجٍ عرفاتيٍّ في الشأن الفلسطيني، أبدى فائضاً من الإعجاب ببسالة المحاربين في غزّة، وانتشى بموقعة السابع من أكتوبر، لما أحدثتْه من خدشٍ حادٍّ في هيبة المؤسّستين العسكرية والأمنية الصهيونيّتين. وكتَبَ في “العربي الجديد” عشرات المقالات التي ضجّت بإجلال المقاومين وتثمين جهادهم وهم يحاربون العدو المتوحّش، ويُبدعون في الكمائن والرمي والقنص. ولم يوفّر المؤسّسة الفلسطينية الرسمية من نقد بؤسها وركاكتها في غضون حرب الإبادة. سيرى الكاتبُ المسكونُ بهموم شعبه الفلسطيني ما يبعثُ على الزهو في أداء المفاوضين الصبورين في “حماس”، وهو الذي لم يلتق فكرياً وسياسياً مع الحركة الإسلامية المجاهدة، ولم يرحمْها في نقده لها سنواتٍ في غير خيارٍ وخيار، غير أنه لمّا انتهت معركة سيف القدس في مايو/ أيار 2021، عدّ يحيى السنوار واحداً من نجومٍ أضاءت سماء غزّة، ولمّا استُشهد هذا القائد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عدّه في مقالةٍ “رمزاً بلا مراء” و”زعيماً فلسطينياً كبيراً”، وازداد في غيابه حضوراً.
خصّ صاحب كتاب “الكيانيّة الفلسطينية …” (1979)، خمس مقالاتٍ للحدث السوري العظيم، الذي لطالما اشتهاه وانتظرَه، انتهاء حكم آل الأسد في دمشق. وأظنٌّه كان سينصرف إلى تقليب اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة على غير وجهٍ ووجه في أكثر من مقالة، فقد أخذَت حرب الإبادة وقتَه ومشاغله وحواسّه ووجدانه، وهو الذي عانى، في الأعوام الثلاثة الأخيرة، صعوبةً في البصر، ومتاعب في السمع، وأثقلت عليه همومٌ خاصة. كان سيغتبط في مقالتِه هنا في هذا اليوم بالتقاط أهل غزّة أنفاسهم، وبالنزْر المتاح لهم من الفرح، وكان سيأسى على الفقْد المهول وعلى الخسران المريع اللذيْن أحدثهما العدو فيهم، وقد ظلّوا متروكين محاصرين، واستفرَد بهم وحوش الحكومة الفاشية وجيشُ العدوان الذي استأسد على ناسٍ عزّل واستضعفهم، من دون أن يقدر على النيْل من إرادة المقاومة والصمود لدى شبّانٍ رابطوا على عقيدة القتال.
لو كتب عيسى الشعيبي مقالتَه اليوم عن اتفاق غزّة لأصابَ وأجاد، ولراقنا منه حسنُ القول والعبارة. رحمه الله.
المصدر: العربي الجديد