حسن النيفي
جسّد الخطاب الذي قدّمته القيادة العسكرية لعملية ردع العدوان (27 تشرين الثاني – 8 كانون الأول) أثراً جيّداً ومقبولاً لدى الرأي العام الداخلي السوري وكذلك لدى الرأي العام الإقليمي والدولي، نظراً لما تضمنه الخطاب من مضامين ذات صلة بالحرص على حياة المواطنين وكرامتهم والحفاظ على الحقوق العامة بعيداً عن أي تمييز عرقي أو ديني، وكذلك لما تضمنه الخطاب المذكور من وعود بإيجاد مقاربات جدّية وفاعلة ومقبولة من عموم السوريين للعبور بسوريا نحو ضفة الأمان. ولعل ما عزّز الأثر الطيب لخطاب قيادة العمليات العسكرية هو السلوك العام لمقاتلي الفصائل العسكرية عبر عملية تحرير كبرى المدن السورية بسلاسة ودون إراقة دماء وبعيداً عن أية مشاهد انتقامية، فضلاً عن الاحترام الذي أبداه المقاتلون المحرِّرون للمختلف معهم من السوريين دينياً وفكرياً وسياسياً.
استمرار الحفاوة مرهون بنتائج عملية على الأرض:
لقد قوبل هذا الأثر الطيب بانطباع مماثل (سورياً وعربياً ودولياً)، وقد تجسدت ترجمة هذا الانطباع بتواتر الوفود القادمة إلى دمشق، بل وفي المبادرات العربية والإقليمية التي أبدت حماساً كبيراً لمؤازرة التجربة التحررية الجديدة في سوريا، كما تبدّى ذلك أيضاً باهتمام أوروبي وأميركي موازاةً مع إطلاق وعود بتخفيف العقوبات الاقتصادية عن سوريا. ولكن يبدو أن هذا الانطباع الجيد لدى الأطراف المختلفة، وبعد أن احتفظ بمفعوله طيلة خمسين يوماً، بدأ يتحوّل إلى تساؤلات لا تخلو من الشك والريبة، ليس بسبب مواقف مستجدة للسلطة الحالية في دمشق، بل بسبب غياب الأجوبة والمواقف، ذلك أن استحسان الآخرين لخطاب السلطة كان مقروناً على الدوام بانتظار تجسيداته الفعلية على الواقع، وهذا ما لم يحصل حتى الآن، ولعل من حق السلطة أن تقول: إن النهوض بالوعود يحتاج إلى مقوّمات مادية ما تزال معدومة، كما من حقها أن تقول أيضاً: إن مقدار الخراب الذي خلّفه النظام الأسدي البائد من العسير تجاوزه والانتقال إلى مرحلة الإعمار بطرفة عين، كما من حقها القول: إن إيجاد بُنى تنظيمية وإدارية جديدة للدولة، وكذلك إيجاد دستور جديد والشروع بعملية انتقالية وإقامة مؤتمر وطني ومن ثم الوصول إلى انتخابات عامة وسوى ذلك، لهي أمور لا يمكن إنجازها في فترة زمنية مدتها خمسون يوماً، بل ربما تحتاج إلى سنوات، وينطبق ذلك أيضاً على بقية الأمور كمسائل إعادة الخدمات الأساسية وإعمار البنى التحتية وسواها. نعم من حق السلطة أن تجيب على ذلك بما تراه مناسباً، كما يتوجب على الآخرين التقيّد بالموضوعية والواقعية لما يمكن تحقيقه ضمن ما هو ممكن لا كما هو مُتخيّل، أي التمييز بين الرغبة والممكن، وبالمجمل قد يكون مقبولاً جداً أن يكون لدى الحكومة برامج أو خطط تعمل من خلالها عبرَ جدول زمني يقدّره أصحاب الاختصاص.
العدالة الانتقالية كمدخل لا بدّ منه:
ولئن كان بمقدور المرء أن يتفهّم أهميّة الوقت وضرورة حيازة الحكومة على فرصتها كاملةً للتعاطي مع العديد من مستحقات البناء، إلّا أن ثمة مسائل أخرى لا تحتمل هذه المعايير، بل تستدعي الشروع المباشر للعمل عليها، باعتبارها خطوة تأسيسية لما يتلوها من خطوات من جهة، ولأن مقوّمات الشروع بها ووسائل تحقيقها متوفرة أو يمكن توفيرها ولا تستوجب الانتظار الطويل من جهة أخرى، ما أعنيه هو العدالة الانتقالية، باعتبارها مفهوماً مؤسِّساً لأي مشروع وطني لمرحلة ما بعد التحرير.
ولئن كان الفساد الأمني هو الإرث الأكثر خطورة من مورثات الحقبة الأسدية، إن لم يكن هو مصدر من مصادر توحّش الدولة، فإن التعاطي مع هذا الملف بما يتضمنه من تصفية فلول ومحاكمة المجرمين وفتح ملف المعتقلين والمختفين قسرياً ومعالجة جميع أشكال الانتهاكات، إنما هي بحاجة إلى مسار قانوني يفضي إلى إنشاء كيان قضائي مستقل عن السلطة ويكون قوامه قضاة ومحامون وأصحاب خبرة في قضايا حقوق الإنسان، فضلاً عن المنظمات الحقوقية السورية التي كان لها نشاط فعّال إنْ على مستوى التوثيق أو على مستوى إقامة الدعاوى وملاحقة مجرمي الحرب أمام المحاكم، بغية البدء بتطبيق العدالة الانتقالية التي في حال استمرار غيابها أو تجاهلها سوف تدخل البلاد في نفق غائم لن يخرج أحدٌ منه بسلام.
ما ينبغي التذكير به دوماً أن ثورة السوريين هي في الأصل ذات منشأ حقوقي، أعني أن مجمل المطالب العامة للمواطنين، وفي مقدمتها الحريات بكافة أشكالها، إنما تنبثق من أصل حقوقي قبل الانتقال إلى تجلياتها السياسية، ولمّا كانت المشكلة الأمنية تتصدّر واجهة الصراع بين الشعب والسلطة، وذلك على مدى أربعة وخمسين عاماً، الأمر الذي كان له تداعيات شديدة الفظاعة، تجسّدت بعمليات اعتقال طويل الأمد وممارسات مهينة داخل السجون وتصفيات جسدية، أي إن الجريمة الممنهجة التي واظبت السلطة الأسدية على ممارستها طيلة عقود مضت، قد أنتجت في النهاية قضية كبرى لدى السوريين تتمثل بمئات الآلاف من الأرواح التي فُقدت ومثلها ممّن سُجنت أو تعرّضت للتعذيب، فضلاً عن حالات الإبادة الجماعية التي شهدها السوريون طيلة سنوات الثورة، ولا شك أن هذه القضية لم تعد قضية أفراد أو جماعة أو حتى جماعات معدودة من الناس، بل هي قضية عموم السوريين، ولعل التعاطي العادل مع هذه القضية هو المدخل السليم للتعاطي مع مجمل القضايا الأخرى.
ما هو مؤكد أن تطبيق العدالة الانتقالية – حتى في الحالة المثالية – لن يعيد إلى الحياة الأرواح التي زُهقت، ولن يعيد إلى المعتقلين والمعتقلات السنوات التي سُلِخت من أعمارهم، ولن يحيي موتى غاز السارين أو الذين قضوا تحت قصف البراميل التي كانت تتساقط فوق مخادع المواطنين فتحيلها ركاماً، وكذلك لن يطفئ حسرات ذوي الضحايا وأحبائهم، ولكن مع ذلك فإن مجرّد شعور الضحايا أو ذويهم بمحاكمة الجناة فهو باعث على الارتياح من جهة، وكذلك هو خطوة تمهيدية لا بدّ منها للانتقال إلى مرحلة الصفح والمسامحة من جهة أخرى، وفي هذا السياق يمكن أن يكون لاعتذار الجاني من الضحية أثر فاعل في التأسيس لمرحلة التسامح. وبالمجمل يمكن الذهاب إلى أن طيّ صفحة الماضي والحيلولة دون أن يكون للأمس المؤلم انعكاس سلبي على المستقبل إنما هو مشروط بتصفية حسابات ليست بالضرورة أن تتجسّد بمواجهات وصدامات وجودية، بل بمزيد من المكاشفة الصريحة والامتثال لمبادئ العدالة.
لعله من غير المنطقي، بل من غير المقبول، ألّا تكون مسألة تطبيق العدالة الانتقالية على رأس أجندة حكومة تصريف الأعمال أو أية حكومة قادمة، بل لعله من غير المقبول أيضاً أن تتجاهل تلك الحكومة ذاتها المئات من الحقوقيين السوريين وأصحاب الكفاءات القانونية، سواء أكانوا قضاة أو مستشارين أو محامين، وتتجاهل العديد من المبادرات التي تقدموا بها كبرامج أو خارطة طريق تتضمن مقاربات عملية لتطبيق مبدأ العدالة الانتقالية، في حين تكتفي بتعيين قضاة شرعيين للإمساك بمفاصل القضاء، هل السبب هو عدم ثقة الحكومة بالثروة القضائية والقانونية السورية، أم ثمة أجندة أخرى لم تفصح الحكومة عنها بعد؟.
المصدر: تلفزيون سوريا