مليحة مسلماني
(عشرات آلاف الشهداء مقابل بضعة آلاف من الأسرى!) مقولة انزلق إليها كثيرون، كما وقعوا في متاهات أسئلة أخرى بعد السابع من أكتوبر، من بينها التساؤل حول جدوى المقاومة. رأينا جلدًا للذات، وجلد ضحية للضحية، ومزاودات على الأسرى وأهاليهم، وحتى شتائم تُكال لهم! لكن هذا كله ليس إلا نتيجة لفخ التفاصيل وضيق الأفق، والتركيز على جزء من المشهد دون إدراك شموليته.
الرؤية القاصرة التي تحصر عملية طوفان الأقصى في هدف تحرير الأسرى فقط تتجاهل عمق التجربة الفلسطينية الممتدة منذ النكبة، بل تتجاهل طبيعة الواقع الاستعماري نفسه. لم يكن هدف المقاومة أسر بضعة جنود فحسب، بل كان الأمر جزءًا من مواجهة استراتيجية تهدف إلى كسر هيبة الاحتلال وتحطيم صورة الردع لديه، وإرباك حساباته، وفرض معادلات جديدة على الأرض. لو كان الأمر مجرد صفقة تبادل، لكان يمكن أسر عدد محدود والتفاوض لسنوات كما حدث في صفقة شاليط، لكن اصبح واضحًا أن المقاومة لم تهدف فقط إلى تحرير أسرى، بل إلى إعادة صياغة قواعد المواجهة.
المعركة التي تخوضها المقاومة – ونخوضها جميعًا معها – هي معركة وجودية، ولا يمكن اختزالها في قضية الأسرى رغم رمزيتها ومركزيتها. التضحيات لم تكن نتيجة خيار اعتباطي عبثي، بل فرضها الاحتلال على شعب يواجه حرب إبادة واستعمارًا احلاليا.
والسؤال هنا: هل هناك خيارات أقل تكلفة؟
الإجابة الواضحة لكل فلسطيني، وخاصة لمن يعيش تحت وطأة الاحتلال، هي أن المواجهة الشاملة كانت حتمية. لم يكن السابع من أكتوبر مجرد قرار لحظي، بل نتيجة عقود من العدوان والحصار والقتل والتهويد والاعتقالات. كانت غزة تحت حصار خانق، والاستيطان في الضفة والقدس يتصاعد، والأسرى يواجهون مزيدًا من القمع، والقضية الفلسطينية برمتها على مذبح التصفية.
أدركت المقاومة أن أي تغيير جذري لن يتحقق إلا عبر تحرك غير تقليدي، لا يضع الاحتلال أمام أزمة تفاوضية، بل أمام أزمة وجودية. وهو ما تحقق بالفعل.
هل كان يمكن تحقيق هذه الأهداف بثمن أقل؟ لا يبدو ذلك، لأن الاحتلال لم يظهر في أي لحظة استعدادًا للتراجع أو تقديم تنازلات كبيرة دون مواجهة عنيفة. بل على العكس، كان هو من يصعّد باستمرار ويفرض قواعد اللعبة، والمقاومة اضطرت هذه المرة لكسر هذه القواعد بالقوة.
لم يكن السابع من أكتوبر مجرد محاولة لتحرير الأسرى، بل كان انتفاضة للحكاية الفلسطينية في وجه السردية الصهيونية التي أعطت الشرعية لذبح الشعب الفلسطيني. كان لحظة فارقة أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد الدولي بعد أن حُكم عليها بالإعدام. رأينا كيف زعزعت هذه العملية أركان الاستعمار الصهيوني: من اهتزاز صورة الردع، إلى المحاكمات الدولية لجرائم الاحتلال، إلى تصدع الجبهة الداخلية الصهيونية، إلى تصاعد المقاطعة العالمية، إلى انبعاث روح المقاومة في الوعي الجمعي الفلسطيني والعالمي.
لهذا، لا ينبغي أن نختزل السابع من أكتوبر في قضية الأسرى، رغم رمزيتها العظيمة، بل علينا أن نراه في إطاره الأوسع: لحظة تحوّل في مسار النضال الفلسطيني، وانطلاقة عهد جديد في مواجهة استعمار لم يترك للفلسطينيين أي خيار سوى المقاومة.