عبدالحليم قنديل
حتى وقت نشر هذه السطور ، قد يكون عدد الفلسطينيين الذين زحفوا من الجنوب والوسط إلى مدينة “غزة” وشمالها قد تجاوزا رقم المليون ، فى أول يومين من الزحف المقدس سيرا على الأقدام ، كان الرقم المسجل قد بلغ نصف المليون ، وكان المشهد مهيبا رهيبا بكل معنى الكلمة ، وكاسحا لكل أوهام وخطط تهجير الفلسطينيين ، فى حرب إبادة همجية طاولت أيامها نحو 16 شهرا ، قتل وجرح فيها من الفلسطينيين المدنيين العزل ما قد يصل إلى مئتى ألف ، وجرى دمار شبه شامل للحجر والبشر والشجر ، استخدمت فيه قنابل أمريكية ثقيلة ومتفجرات قاربت زنتها نحو مئة ألف طن ، زادت قدرتها الإبادية على خمس قنابل ذرية من النوع الذى ألقى على “هيروشيما” و”نجازاكى” اليابانيتين نهاية الحرب العالمية الثانية ، استسلمت اليابان وقتها بدمار قنبلتين ، لكن الشعب الفلسطينى فى شريط “غزة” الذى لا تجاوز مساحته الكلية 365 كيلومترا مربعا لم يرفع الراية البيضاء أبدا ، وبدا كأنه “شعب الله المختار” الحقيقى بوقائع وأساطير وبطولات التاريخ الجارى ، وعلم ويعلم الدنيا كيف تكون قوة الارتباط بالأرض ، وكيف تكون الأرض مقدسة بما ارتوت من دماء بنيها ، الذين لم يعبأوا بالدمار الكامل فى شمال “غزة” بالذات ، وتدمير مقومات الحياة كلها هناك ، وبدوا كأنهم الأنبياء الأول أطلوا علينا من صفحات الكتب المقدسة ، وألقوا على سمع التاريخ عظتهم الكبرى ، وهى أن الأرض فى ذاتها ، وليس بما يقام عليها من منشآت تهدم ويعاد البناء ، أن الأرض ذاتها هى الحياة وسرها المقدس ، وأن على هذه الأرض المترعة بالدم “ما يستحق الحياة” كما قال يوما شاعر فلسطين الأعظم “محمود درويش” .
“غزة” الضيقة المساحة ، المدمرة كليا ، بدت أكثر اتساعا من العالم بقاراته الخمس المعمورة ، وهزأت بصغائر “دونالد ترامب” ، الذى يتصور نفسه سيدا للعالم وصانعا لأقداره ، وتصور أنه يعقد صفقة عقار ، مع عرضه البذئ بتهجير ملايين الفلسطينيين إلى دول أخرى ، وإلى مصر والأردن بالذات ، وهو ما لقى ما يستحقه من رفض لا يتزعزع فى مصر بالذات ، ومهما كانت العواقب ، فالقضية الفلسطينية هى شعبها ، الذى تناسلت أجياله على أرضها ، وردت وترد على نكتة “ترامب” السخيفة بتحويل “غزة” إلى “سيليكون فالى” أو ملاهى” لاس فيجاس” ، وقد تكالبت الدنيا كلها على “غزة” وأهلها، وصنعت فيهم ما صنعت قتلا وتشريد وتهديما ، وحولت حتى الأطفال الرضع إلى أشلاء وعظام ، وحرمت “الغزيين” حتى من نعمة التنفس ، أو إيجاد كفن أو قبر للشهداء ، لكن “غزة” صنعت المعجزة التى لا يقدر عليها أحد آخر ، فالقطاع الصغير ليس مجرد جزء من جغرافيا فلسطين التاريخية المحتلة من نهرها إلى بحرها ، بل “غزة” هى فلسطين كلها مصغرة مكثفة ، وأغلب أهلها جرى تهجيرهم لأجيال من كل نواحى فلسطين ، وكانوا فى قلب المحنة الفريدة الطاحنة التى عاشها الشعب الفلسطينى ، وخلقتهم المحنة خلقا جديدا فى نكبة 1948 ، أى قبل نحو ثمانين سنة ، قالت لهم جيوش المحتل البريطانى ، وقالت لهم الجيوش العربية التى هزمت فى فلسطين ، قالوا لهم أخرجوا واهربوا من نار الحرب وستعودون بعد أسبوع ، وصدق الفلسطينيون وقتها الكذبة ، وهاجروا من أرضهم المقدسة ومعهم مفاتيح البيوت ، لكن الذين تركوا أرضهم لم يعودوا إليها أبدا ، وهو ما استوعب الشعب الفلسطينى دروسه القاسية الباقية ، وعرف أن الثبات على الأرض هو عنوان النصر وطريقه فى صراع طويل ممتد ، لا بديل فيه سوى أن يهزم الدم السيف ، فلسنا بصدد قرارات أو اختيارات ، بل بصدد أقدار ، يندفع إليها الصراع الدامى فوق الأرض المقدسة ، بعد أن جربت وخابت كل اختيارات السلام والتطبيع المدنس ، ولم يبق إلا قدر المقاومة بما ملكت اليد من سلاح ، وبما اختزن فى الضمائر من لعنات الهوان ، وما جرى منذ 7 أكتوبر 2023 مجرد جولة سبقتها وتعقبها جولات ، وإلى أن تعود النجوم إلى مداراتها ، ويعود الحق لأهله ، وراقب فقط من فضلك ما جرى على الجانبين ، فقد استنفدت أمريكا و”إسرائيل” فى الحرب ما تملكه من وسائل القتل والدمار والتكنولوجيا ، حطمت وأفنت فى فلسطين وجنوب لبنان ، وتصورت أنها الفرصة الأخيرة للخلاص من المقاومة وحواضنها الشعبية ، لكنها فى المدار التاريخى الأوسع للصراع الممتد إلى ثلاثة عقود مقبلة فيما نظن ، لم تنجز في المحصلة سوى خيبة جديدة ، دمرت وقتلت دون أن تنتصر ، وجرى استقبال الزحف المليونى الفلسطينى داخل “إسرائيل” باعتباره إشارة على هزيمة مطلقة ، فيما كان الزحف الفلسطينى غير المسبوق تاريخيا ، تكتمل وعود النصر فيه بزحف مماثل فى المغزى جرى فى جنوب لبنان بذات اليوم ، وكان عشرات الآلاف من أهالى الجنوب يزحفون إلى قرى الشريط الحدودى التى لم تنسحب منها “إسرائيل” ، بينما المستوطنون الغزاة لم يعودوا بعد إلى مستوطنات الشمال ، ولا عادوا بالكامل بعد إلى مستوطنات غلاف “غزة” ، وقد كانوا قبل أيام يستبشرون بدمار “جباليا” و”بيت لاهيا” و”بيت حانون” ، ويعبرون عن ارتياحهم وسرورهم ، ويتفاخرون أنهم صاروا يرون البحر المتوسط بلا عوائق بصرية من منازل الفلسطينيين ، وهذا هو الفارق الجوهرى بين جماعة الفلسطينيين وجماعة المستوطنين المرتعبين بالغرائز من مجرد رؤية الفلسطينى ، وانخلعت قلوبهم من الخوف ، وعبر ثلث “الإسرائيليين” فى استطلاعات الرأى عن الفزع الجامح ، وراحت أفواج الهجرة اليهودية لاستيطان فلسطين تتضاءل إلى حد غير مسبوق ، وعلى نحو ما جاء فى أرقام مكتب الإحصاء الإسرائيلى بتقريره السنوى الأخير ، فقد سجل أن عدد اليهود الذين جاءوا إلى الكيان تضاءل إلى 24 ألفا لا غير طوال عام 2024 ، بينما بلغت أعداد الذين تركوا الكيان بغير عودة أرقاما غير مسبوقة ، وصلت فى تقديرات “إيلان بابيه” ـ أشهر مؤرخ “إسرائيلى” ـ إلى 700 ألف فى العام الأول من الحرب ، وما انتهت إليه من دمار شامل عمرانى وسكانى على الجانب اللبنانى والفلسطينى ، لكن قوة الروح والصبر واحتمال التضحيات صنعت الفارق ، فلم تعد حركات المقاومة مجرد أسماك تسبح فى بحر الشعب ، بل صار الشعب ذاته هو المقاومة وصانعها وعامودها الفقرى ، ولا أحد بوسعه مهما امتلك من نيران الحرب وجحيمها ، أن يهزم شعبا بكامله ، فالشعوب الحية لا تفنى أبدا ، ويظل بوسعها أن تصنع الملاحم ، مهما تكاثرت صنوف الخذلان من داخلها أو من حولها ، وهو ما صنع ويصنع لحظة فلسطين الفارقة ، وقد صارت فلسطين قضية العصر كله ، فالشعب الشهيد وحده يصنع تاريخه ، ويعيد صياغة معانى الانحياز الإنسانى ، ويوقظ الضمائر المعادية للقصف والعصف وجبروت المتوحشين ، وسوف يذهب “ترامب” إلى حيث ألقت ذات يوم قريب ، وينتهى “بنيامين نتنياهو” وصحبه إلى مزابل التاريخ ، فلم يحدث أبدا فى التاريخ ، أن ملك شعب جرى احتلاله ذات القوة المسلحة الباطشة لعدوه ، لكن الصبر المؤمن والمقدرة الفائقة على التحمل تصنع الفارق فى النهاية ، وتؤدى إلى إنهاك العدو المحتل مهما تعاظمت قوته ، ومهما حصل على دعم المتخاذلين وجحافل الخونة للضمائر والأوطان .
وفى حروب العصر غير المتناظرة ، لا ينتصر الأقوى ولا يحقق أهدافه كاملة ، ولا ينهزم الأضعف إلا إذا استسلم ، وفى الحرب الأخيرة ، لم تنتصر “إسرائيل” ولا انكسرت “غزة” ، ولن تنكسر الضفة ولا القدس ولا فلسطين المحتلة بكاملها ، وتأمل ما حولك من فضلك ، فحيث توجد المقاومة يولد الصمود ، وحيث تغيب تضيع الأرض ، فى جنوب سوريا تزحف “إسرائيل” كأنها فى نزهة خلوية ، وفى جنوب لبنان تواجه التحدى الشعبى الغلاب المنتصر بإذن الله ، ومع رئاسة “ترامب” وبلطجتها تتضاعف المخاطر ، ويلتهب مشهد المنطقة كلها ، وقد قال بنفسه فى اجتماع مع “الأيباك” ذات يوم قريب ، أنه يسعى لجعل “إسرائيل” ـ كما أمريكا ـ عظيمة مرة أخرى ، وهو يندفع كالثور الهائج إلى إشعال جبهات ساكنة مع مصر بالذات ، بدعوى سعيه ـ كما يزعم ـ إلى فرض السلام بالقوة (!) ، وفى مجرى الصراع طويل الأمد ، تبدو بلطجة “ترامب” كنعمة لا نقمة علينا ، فهو يسقط أقنعة الخداع عن وجه أمريكا القبيح ، ولا يلف ويدور كما سلفه “بايدن” مثلا ، الذى دعا أول الحرب إلى تهجير الفلسطينيين بلغة مستترة ، وطالب مصر بما أسماه “فتح الحدود للفلسطينيين” ، ولقى وقتها رفضا جهيرا ، لن يلقى “ترامب” أقل منه ، مهما كانت العواقب والعقوبات ، فالشعب الفلسطينى قال كلمته ، ويقولها الشعب المصرى قبل حكامه ، وقد أعلنها الرئيس السيسى بوضوح ، فلن يسمح “الرأى العام المصرى” لحاكم بالمشاركة بظلم الفلسطينيين وتهجيرهم وتصفية القضية المقدسة.
المصدر: القدس العربي