فاطمة العيساوي
قدّمت جمعية هند رجب نموذجا لنضال في وجه الإبادة غير مسبوق في تجاربنا. المنظمة التي أثارت رعبا بين الجنود الإسرائيليين المتورّطين بجرائم حرب تقول إن هدفها أن تواجه واقع الإفلات من العقاب وإحياء ذكرى الطفلة هند رجب وكل الأطفال الذين قضوا في هول الإبادة، عبر التأكد من أن قصص قتلهم لن تسقط في النسيان كما ضحايا جرائم الإبادة في العالم. تواجه المنظمة حملة تضليل تتهمها بمعاداة السامية ودعم الإرهاب، ولعل شراسة الحملة مردّها النتائج المهمة التي حققتها بشكل خاص في أوساط الجنود مرتكبي هذه الجرائم.
يواجه مؤسّس المنظمة دياب أبو جهجه اتهامات بمعاداة السامية، بعد نشره تعبيرات على وسائل التواصل الاجتماعي تشيد بهجمات 7 أكتوبر (2023)، ومساهمته في تنظيم زيارات لنواب في حزب الله إلى بلجيكا، حيث يقيم وتتخذ المنظمة موقعا لها. إلا أن الجدل حول المؤسّس لم يمنع المنظمة التي تعتمد على شبكة واسعة من المحققين المتطوعين من تحقيق نجاحاتٍ، أبرزها إرغام وزير شؤون المهاجرين الإسرائيلي إلغاء زيارة كانت مقرّرة لبلجيكا، بعدما قدّمت المنظمة شكوى جنائية ضده، وأوصى مجلس الأمن القومي الإسرائيلي بإلغائها. وكان مؤسس الجمعية أبو جهجه قد اتهم الوزير الإسرائيلي بتوجيه “تهديدات إرهابية” ضده، بعدما غرّد الأخير أن على أبو جهجه أن “يراقب جهاز الموبايل” خاصته في إشارة إلى عملية تفجير أجهزة البيجر التي راح ضحيتها ثمانية قتلى وأكثر من 2700 مصاب بين مقاتلي حزب الله في سبتمبر/ أيلول الماضي في لبنان.
قدمت الجمعية نموذجا لعمل نشاطي فاعل يتجاوز مجرّد الشعارات الرنانة إلى المراقبة وجمع المعلومات والتحرّي وتوجيه الشكاوى القضائية لدى هيئات القانون الدولي والقضاء المحلي. لا شعار أفضل للمنظمّة من اسم الطفلة هند رجب التي قضت في جريمة قد تكون الأفظع في سلسلة جرائم القتل المجاني السادي لآلة الحرب الإسرائيلية في غزّة. تحوّلت الطفلة إلى أيقونة تمثل الأطفال ضحايا الإبادة في غزّة والعالم عبر مجسّمات وجداريات انتشرت في أنحاء مختلفة من العالم، بما في ذلك إطلاق اسمها على أروقة في جامعات ومؤسسات أخرى. ليس الرعب فقط هو قتل طفلة في حرب الإبادة، إذ قدّر مكتب حقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن 70% من ضحايا الحرب في الأشهر السبعة الأولى للحرب هم من النساء والأطفال. المرعب هو الوحدة الرهيبة للطفلة التي قضت ساعات في سيارة محاطة بجثث أقاربها في حين كانوا يحاولون الفرار استجابة لأوامر الجيش الإسرائيلي بإخلاء المنطقة والنزوح جنوبا. قتلت الطفلة في السيارة التي تعرضت لأكثر من 300 طلقة نارية من دبابة إسرائيلية، بحسب تقرير لمنظمة فورانسيك اركيتاكتشر Forensic Architecture، التي تمكّنت من التحقيق في الحادث باستخدام تقنية صور الأقمار الصناعية. قصة قتل الطفلة البالغة من العمر ست سنوات اختصرها صوتها في تسجيل خليوي لها بعدما كانت قد نجحت في التواصل مع والدتها، لتقول إنها خائفة، وتطلب أن يأتوا ليخلصوها ساعات قبل قتلها. كابوس الساعات الأخيرة من حياة هند القصيرة سيلاحقنا طويلا.
تحوّلت الطفلة هند رجب إلى أيقونة تمثل الأطفال ضحايا الإبادة في غزّة والعالم عبر مجسّمات وجداريات انتشرت في أنحاء مختلفة من العالم
تقول منظمة هند رجب إنها قدمت شكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية في حق ألف جندي إسرائيلي، تتهمهم بارتكاب جرائم حرب استنادا إلى ثمانية آلاف وثيقة من الأدلة، بما في ذلك انتهاكات وثقها الجنود أنفسهم في صور التقطوها ونشروها على وسائل التواصل الاجتماعي، طالبة من المحكمة إصدار مذكّرات توقيف ضدهم. كان نشاط المنظمة ليبقى رمزيا لو أنها لم تعمد إلى ملاحقة الجنود الذين يحمل معظمهم جنسيات أخرى في رحلاتهم السياحية إلى بلدان قد تقبل شكاوى ضدهم. قال محامي المنظمة هارون رضا، في مقابلة مع موقع “موندوويس”، إن إقبال الجنود الإسرائيليين، بتوصية من إدارتهم، على محو تغريداتهم وصورهم على وسائط التواصل الاجتماعي دليل على اقتناعهم بارتكاب جرم ووجود نية لارتكابه، إلا أن ذاكرة الإنترنت لا تنسى حتى بعد محو الأدلة. تمكنت المنظمة أخيرا من ملاحقة جندي إسرائيلي في حين كان في رحلة سياحية إلى البرازيل، إذ تقدّمت بشكوى ضد الجندي بتهمة ارتكاب جرائم حرب أدت إلى فتح تحقيق لدى الشرطة انتهى بتوجيه تهمة “المشاركة في عمليات الهدم واسعة النطاق لمنازل المدنيين في غزّة خلال حملة تدمير ممنهجة”. لاحقت المنظمة أيضا منسق أنشطة الحكومة في الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة خلال زيارة له إلى روما بتهمة “الإشراف على الحصار الشامل على غزّة، واستخدام التجويع سلاحاً واستهداف البنية التحتية المدنية، بما في ذلك المستشفيات، في أعمال ترقى إلى الإبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”. تمكّنت السلطات الإسرائيلية من تهريب الجندي، إلا أن ملاحقته واستجابة السلطات في البرازيل للشكوى شكلت مصدر رعب للجنود الإسرائيليين وإداراتهم. في وقت كتابة هذه السطور، فتحت سويسرا تحقيقا جنائيا في حق جندي إسرائيلي موجود على أراضيها بناء على شكوى من المنظمة.
العمل الحقوقي التطوعي المستند إلى تضامن مجتمعي بإمكانه أن يحقق نوعاً من العدالة لضحايا المجازر، أقله أنه أكثر إفادة من ثرثرة الشعارات
فرضت شكاوى جمعية هند رجب حصارا فعليا على الجنود الإسرائيليين، ونقلت فكرة المحاسبة ووقف الإفلات من العقاب من الشعارات إلى العمل الميداني الحقوقي. تذكّر المبادرة بالنجاح الذي حققته مجموعة من الناشطين الفلسطينيين واللبنانيين وأنتج قراراً غير مسبوق من المحكمة العليا البلجيكية بالسماح بالتحقيق في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982 في بيروت، في ما اعتبر خطوة تاريخية في القانون الدولي. وبحسب القرار الصادر في العام 2003، فان قضية التحقيق في المجزرة ومسؤولية إسرائيل فيها شملت في قانون لعام 1993 يمنح المحاكم البلجيكية سلطة محاكمة المتهمين بارتكاب جرائم إبادة أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب، بغض النظر عن مكان ارتكاب الجرائم أو ما إذا كان المشتبه به أو الضحايا بلجيكيين.
قد يكون هدف المنظمة الضغط من أجل ردع المجازر، وليس فقط محاسبة مرتكبيها غير واقعي، نظراً إلى تعقد وبطء وقلة فاعلية القانون الدولي ومنظماته، إلا أن التأثير الذي حققه نشاط الجمعية في حصار القتلة أثبت أن العمل الحقوقي التطوعي المستند إلى تضامن مجتمعي بإمكانه أن يحقق نوعاً من العدالة لضحايا المجازر، أقله أنه أكثر إفادة من ثرثرة الشعارات.
المصدر: العربي الجديد