عبد الله هداري
لاحظ الجميع، بشكل لافت ومقصود، كيف كانوا يصطفون في مقدّمة المدعوين لحفل التنصيب، في دلالة على حجم ما يحظون به من تقدير فائق من رئيس الولايات المتحدة المنتخب دونالد ترمب؛ إنهم أصحاب شركات التكنولوجيا الأغنى والأكبر في العالم، جمعتهم صورة معبّرة، ظهر فيها كل من جيف بيزوس مؤسس شركة أمازون، وسوندار بيتشاي الرئيس التنفيذي لشركة غوغل، وإيلون ماسك الرئيس التنفيذي لشركتي “تسلا وسبايس إكس”، ومارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة ميتا، بالإضافة لحضور كل من سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة Open Ai، وشوو زي تشو الرئيس التنفيذي “لتيك توك”، ومستثمرين عدة في المجال التكنولوجي.
تعبّر الصورة عن امتنان ترامب لهؤلاء الجنود الملتزمين بقضيته: “إعادة أميركا عظيمة مجدداً”، الذين اتخذوا طريقهم نحو هذه الغاية بمساندتهم ترامب، وتعبيد الطريق له مالياً وتقنياً للفوز بولايته الثانية. غير أن ترامب يظهرهم في المقدمة ليس لشكرهم فحسب، وإنما ليخبر الجميع أن هؤلاء جزء من الطاقم الموسّع الذي سيحكم معه في ولايته هذه، وهم أيضاً سلاحه الذي سيتحكم من خلاله في الأخبار والمعلومات وصناعة المستقبل.
تقول جيسكا واشنطن المراسلة السياسية لموقع “ذا إنترسيبت” والمتخصصة في التواصل والتكنولوجيات الحديثة، في إحدى حلقات (The Intercept Briefing) في 24 يناير 2025، واصفةً التحالف بين هؤلاء والسلطة بأنه لا يتعلّق بمصالحهم المالية فحسب، بل بدفع رؤيتهم للعالم نحو الانتشار أكثر، وتضيف بأنهم يرون أنفسهم صانعي العالم الجديد. ورغم تحفظهم السابق وحذرهم من الانخراط الكلي في طروحات ترامب، إلا أنهم يتجهون اليوم بدون أعذار وبكل وضوح نحو الفاشية التكنولوجيّة حسب العبارة الشهيرة للصحفي مايكل مالون، الأمر الذي يكشِفُ، حسب وصف بيكا لويس الخبيرة في الثقافات السياسية وحركات الإعلام والتلاعب بالأخبار على الإنترنت في مقالتها المطولة “متجهون نحو الفاشية التكنولوجية، جذور اليمين في وادي السيلكون” المنشورة في “الغارديان” في 29 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، أن مسيرة اليمينيين داخل وادي السيلكون ليست جديدة، والتغيير الذي طرأ، أنها خلعت ثوب اليوتوبيا الرقمية واتجهت نحو الافتخار بتاريخ فاشيّ ينتصر للقومية اليمينية، والعديد من الخلطات العرقية والدينية الاستعلائية الأخرى.
يحتقر ترامب اليوم الوسائل الإخبارية الأكثر شهرة في الولايات المتحدة، والتي يعدها كائنات بدائية، فقدت مخالبها، وانقضى زمنها
ولمزيد من الكشف عن هذه الجذور الطويلة للفاشية التكنولوجية التي تقاطعت مصالحها مع الرئيس الجديد، تعلّق بيكا لويس، أن السمعة الليبرالية التي تتمتّع بها الصناعة الرقمية مضلّلة، لأنها تحتفي منذ بداياتها بالثروة والسلطة وقيم اليمين التقليدية، منذ ما سمّي “جنون الدوت كوم” في تسعينييات القرن العشرين، فعندما أصدر جورج جيلدر كتابه “الثروة والفقر” سنة 1981، كان حسب بيكا لويس، بمثابة الكتاب المقدس لإدارة ريغان، وكان له الأثر الأكبر في مزيدٍ من الاحتفاء بريادة الأعمال في خطاباته. وجيلدر كما تصفُه معروف بأنه من أصحاب “التفاؤل المستقبلي بالتكنولوجيا” الذين يؤمنون بأنها مستقبل الولايات المتحدة الاقتصادي، ومنه جاء ما سمي بـ”تأثير جيلدر” الذي سَحَر رواد أعمال يمينيين كثر في الولايات المتحدة، ودفع الكثيرين منهم لاقتحام وادي السيلكون والاستثمار فيه.
هذا الرجل المحافظ سياسياً، الذي أطلقت عليه المنظمة الوطنية للمرأة في الولايات المتحدة لقب “الخنزير الشوفيني الذكر” لعام 1974، نظراً إلى مواقفه المعادية للنسوية، وهو اللقب الذي كان بمثابة هدية ثمينة قدّمت إليه، فزادت من صناعة اسمه وشهرته، وإذا ما أدمجنا توجهاته الاجتماعية والدينية بالإضافة إلى الاحتفاء برواد الأعمال، الذين كان يعتبرهم البشرَ الذين يعرفون قواعد العالم وقوانين الله لأنهم بالنسبة إليه الأكثر ملاءمة دائماً لقيادة البلاد من الخبراء، فسنفهم طبيعة هذه التركيبة اليمينية القومية، ذات الإيمان الراسخ بالعنف والقوة، والمؤمنة أيضاً حسب عبارة بانكاج ميشرا بقيم “رجولة لا ترحم، ولا ترضى بالتوافق ولا تسعى إلى تفهّم الآخر، ولا تذرف دموع الرأفة على ما يعانيه الضعفاء”. ولذا؛ فكل اليمينيين في وادي السيلكون اليوم، لا يمكنهم أن يجدوا خيراً من ترامب، رائد الأعمال الذي يفتخر بكل قيمهم، ويتمثّلها بعناية، ويضعها عنواناً لتوجهاته السياسية.
السمعة الليبرالية التي تتمتع بها الصناعة الرقمية مضلّلة، لأنها تحتفي منذ بداياتها بالثروة والسلطة وقيم اليمين التقليدية
وعن الأثر الخطير لهذه الشوفينية التكنولوجية، يوضح تقرير “التلاعب بوسائل الإعلام والتضليل عبر الإنترنت”، الذي أصدرته منظمة Data & Society، كيف أن تقنيات التلاعب اليمينية أثرت على نتائج 2016 التي فاز فيها ترامب، وكيف أن هذا التلاعب ولَّد فقداناً للثقة بالوسائل الإعلامية الإخبارية المعتمدة، ليجري توجيه الاهتمام بدلاً من ذلك نحو الوسائل الحزبية، ومنافذ اليمين المتطرف على صفحات التواصل الاجتماعي. ومنه نفهم احتقار ترامب اليوم للوسائل الإخبارية الأكثر شهرة في الولايات المتحدة، والتي يعدها كائنات بدائية، فقدت مخالبها، وانقضى زمنها.
يتناول التقرير كذلك تحليل كيفية صعود اليمين المتطرّف على الإنترنت، ويحدّدها في ثلاث تقنيات رئيسية، وهي: استخدام اللغة التحريضية، وبناء التحالفات عبر حملات موجهة ضمن وسائل التواصل الاجتماعي، وترهيب المعارضين.
ويكشف التقرير أيضاً أن شهية الإعلام الكلاسيكي للإثارة، والتجديد المستمر، والتركيز على الأرباح، جعله عرضة للتلاعب الاستراتيجي بشكل كبير، الأمر الذي استغلته الجهات اليمينية، بل وامتلكت فيه خبرات ودربة كبيرة على جذب وسائل الإعلام وإظهار الدعاية المطلوبة ونشر المعلومات المضلّلة على نطاق واسع وبشكل فعال، وهي دون شك وسائل وطرق تؤدي كلّها في المحصلة للإضرار بالديمقراطية والمشاركة المدنية.
كل اليمينيين في وادي السيلكون اليوم، لا يمكنهم أن يجدوا خيراً من ترامب، رائد الأعمال الذي يفتخر بكلّ قيمهم، ويتمثّلها بعناية
وعبر تقنية ما أسماه التقرير “التضخيم الاستراتيجي” استطاعت هذه الجهات دمج نظريات المؤامرة ضمن خطاب الأخبار السائدة، ومن الأمثلة التي يقدمها على ذلك، التعاطي مع ترشّح الديمقراطية هيلاري كلينتون، وكيف تداول اليمين المتطرف بنجاح نظريات للمؤامرة تشير إلى أنها تخفي مشاكل صحية جسيمة، وقد استعملوا في ذلك تقنيات الأخبار المزيفة و”الميمات” الساخرة والمُغرضة، إلى جانب استخدام روبوتات توتير سابقاً وقنوات يوتيوب وغيرها. ودلالة على نجاح مهمة اليمين التضليلية هذه، يبين التقرير أن صحفاً كبرى كالواشنطن بوست ونيويورك تايمز غطّت نظريات المؤامرة المروّجة حول كلينتون أكثر من الادّعاءات الجنسية المزعومة لترامب وارتباطاته بروسيا.
قصة الصعود هذه، تفصح حسب المراسل سام بيدل المتخصص في التكنولوجيا، في مقالة على موقع “ذا انترسيبت” (نشرت في 17 نوفمبر 2024)، عن أمور مشتركة باتت تميز هذه الشخصيات اليمينية في مجال التكنولوجيا اليوم، وهي دعم الجمهوريين، والاعتقاد بأن الصين تمثل تهديداً وجودياً للولايات المتحدة، والعداء لمسألة الموازنة بين وتيرة الاختراعات والاعتبارات الأخلاقية، وأخيراً ضرورة الاستفادة اللامحدودة من سباق التسلح الجديد المدفوع بالتكنولوجيا.
ولعل الوصف الأجمل لما نعيشه من فورة يمينية في المجال التكنولوجي، ذلك الذي منحه كريس هايز لترامب، بأنه مكبّر صوت أتقن استراتيجيات الاهتمام الجديد في عصرنا، إذ لم تعد تلك المعارف الكلاسيكية حول المناظرة السياسية مجدية عنده، فالإقناع الذي هو النهاية المنطقية لكل دعاية، لم يعد شاغلاً يهمّ هؤلاء، بل جذبُ الاهتمام صار غايةً في حد ذاته، ولا بأس في سبيل تحقيق ذلك أن يجري تمويه وتضليل كلّ شيء.
المصدر: العربي الجديد