أحمد عيشة
أثار سقوط نظام الأسد في سوريا سؤالاً مهماً: هل يمكن لملايين السوريين الذين تركوا بيوتهم نتيجة لقصف النظام والخوف من الاعتقال والتعذيب الذي تكشّف بعضاً من أساليبه، وانتشروا في بقاع الأرض تحت مسميات مختلفة: (ضيوف، طالبو لجوء، لاجئون) أن يعودوا الآن إلى ديارهم بعد أربعة عشر عاماً، ناهيك عن المهجرين في الداخل المنتشرين على طول المناطق الحدودية مع تركيا، حيث تنتشر المخيمات؟
بالطبع، لا تتوقف العودة على رغبة المهجّرين واللاجئين، وهي موجودة، لكن ثمة عوامل عديدة تتداخل في قرارهم، أولها حالة بيوتهم نتيجة للدمار الهائل الذي لحق بها، وحالة القلق السائدة نتيجة لغياب البنى التحتية الخدمية وانعدام فرص العمل وغيرها، ومقارنتها بالأحوال التي يعيشونها في بلدان اللجوء من دون إهمال خيارات اللاجئين الفردية، والأهم قضية الطلبة والتعليم، ومن جهة أخرى مواقف الدول التي استقبلتهم، إذ بدأت بمناقشة الآثار المترتبة على عودة اللاجئين، وهل ستكون طوعية أم قسرية؟
مع أن المشهد السياسي قد تغيّر بشكل جذري، هذا التغيّر الذي أثلج صدور السوريين عامة، إلا أننا لم نشهد بالمقابل خلال الشهرين سوى عودة نسبة قليلة من المهجرين (125 -150) ألفاً من العدد الكلي (6 -7) مليون في الخارج بنسبة (2) في المئة.
الإطاحة بنظام بشار الأسد لا يعني أن سوريا ستعيش في سلام، فغير الظروف الداخلية المرهقة جداً، يأتي استمرار عمليات القصف الإسرائيلية وما تشكله من ضغط على السلطات الجديدة..
ويعود السبب في ذلك إلى أسباب عديدة، أهمها الظروف التي تعيشها سوريا من حيث نسبة الدمار التي أصابت بيوتهم (ثلث المنازل تقريباً)، وعدم قدرتهم على تحمّل إعادة إعمارها، ناهيك عن الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية الخدمية (شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء) التي تحتاج إلى أموال كثيرة لإعادة إعمارها أو تأهيلها، إضافة إلى الوقت اللازم لذلك، وبالتالي لن يكون لدى العديد من اللاجئين السوريين أي منزل أو وظيفة للعودة إليها.. فالبنية التحتية في سوريا متدهورة لدرجة أن الخدمات الأساسية غير كافية أو شبه غائبة.
تبقى حالة عدم اليقين والغموض، مع أنهما أمور تلازم عمليات التغيير الكبرى كما حدث في سوريا، أحد أهم العوامل التي لا تدفع كثيرين إلى التفكير بالعودة، فالإطاحة بنظام بشار الأسد لا يعني أن سوريا ستعيش في سلام، فغير الظروف الداخلية المرهقة جداً، يأتي استمرار عمليات القصف الإسرائيلية وما تشكله من ضغط على السلطات الجديدة، إذ تظهرها بموقع الجهة الضعيفة غير القادرة على الدفاع عن حدودها كأحد الأسباب التي تعيق عمليات الاستقرار والبناء.
داخلياً، ما تزال بعض المناطق خارجة عن السيطرة، خاصة الجزيرة السورية التي تضم أهم الثروات والتي يمكن أن تساعد على بناء البلاد، حيث تحتلها ميليشيا “الاتحاد الديمقراطي” تحت مسمى “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بما تمتلكه من قدرات عسكرية ودعم أميركيين بحجة محاربة تنظيم داعش، وهو ما يشكل مصدر توتر وتهديد لاستقرار البلاد، حيث خيارها السياسي على طريقة نظام الأسد و”حزب الله”: إما..، أو.. من جهة، ومن جهة أخرى تحريض الغير على اتباع النموذج القسدي: المواطنة المتميزة.
تختلف الظروف في البلدان المضيفة بشكل كبير، فقد أصبح بعضها يعتمد على القوى العاملة السورية، حيث يشغل اللاجئون السوريون وظائف في صناعات رئيسية كما في تركيا وألمانيا ومصر، ومن شأن الرحيل المفاجئ للعمال السوريين أن يؤدي إلى تفاقم النقص الحالي بالعمالة في قطاعات عديدة.
وحتى اليوم، لا تتبنى عموم هذه الدول سياسة الإعادة القسرية، أي أنها لن تعيد اللاجئين رغماً عنهم إلى منطقة لم يتم تصنيفها حتى الآن كمنطقة استقرار وربما تشجع على العودة الطوعية من خلال تقديم تسهيلات مالية وقانونية.
وبغض النظر عن الخطاب الشعبوي، فإن الدول المضيفة، خاصة أوروبا، لن ترحل اللاجئين السوريين لأن ذلك يشكل انتهاكاً القانون الدولي، فلجأت منذ سقوط الأسد إلى تجميد ملفات اللجوء لمدة ستة أشهر بانتظار التقييم السياسي للحكم الجديد، وتبقى حالات العودة منحصرة في طلبات العودة الطوعية التي تلقى بعض التشجيع.
تؤثر العوامل الفردية مثل العمر والجنس والوضع الاجتماعي والاقتصادي على قرارات العودة، فكثير من اللاجئين السوريين لا يرغبون في العودة إلى بلد يفتقد للحدود الدنيا للحياة، إلى بلد يذكرهم بالفظائع، خاصة بعد تكشف الوقائع بعد سقوط الأسد، حيث المسالخ والمقابر الجماعية، فحوالي نصف المهجرين هم من الشباب الذين ربما قضوا معظم حياتهم خارج بلدهم، وتعلموا أو عملوا في بلدان اللجوء، حيث الحريات الشخصية والخدمات متاحة ووسائل الراحة حتى، هذه الخدمات التي سيفتقدوها عند عودتهم إلى سوريا، ناهيك عن ظروف التعليم ومحدودية فرص العمل إن توفرت، وبالتالي ما لم يرَ هؤلاء الشباب البلد بحالة من الاستقرار يوفر لهم فرص الحياة، ستكون عودتهم محدودة جداً.
القضية المهمة جداً، وهي مسألة التعليم، حيث مئات آلاف الطلبة الذين تلقوا تعليمهم بلغات البلد المضيف، أو بلد اللجوء، فهناك جيل كامل من الطلاب قد تلقوا تعليماً وفق مناهج مختلفة، وبالتالي صار من الصعب عليهم متابعة تعليمهم أو استكماله باللغة العربية التي تحولت لديهم إلى لغة محكية، أما الكتابة والقراءة فقد صارت بحاجة إلى جهد كبير لمعرفتهما، أما الطلبة الجامعيين، إضافة لما سبق من مشكلات، حتى اليوم، لم تصدر أي تعليمات من الجهات المختصة بخصوصهم، بما يتعلق بتعديل شهاداتهم، أو موادهم، وغيرها، فضلاً عن أنهم درسوا في بعض الفروع غير الموجودة في الجامعات السورية، وكذلك مسألة المتابعة باللغة العربية، وهي مشكلات حقيقية تضع الطلبة وأهاليهم بحالة من عدم اليقين بخصوص مستقبلهم، أما عن فرص العمل للخريجين فهي في الوقت الحالي نادرة جداً، ومرهونة بتحسن الوضع الخدمي والاقتصادي المرتبط مباشرة برفع العقوبات والموقف الدولي.
ما خلّفه نظام الأسد يجعل من مستقبل سوريا لحظات قاتمة وخطرة، فالعقبات التي تعترض إعادة إعمار البلاد من بناء وتأسيس للدولة وحل للمشكلات الناتجة عنها هائلة.
ومن أهمها قضية اللاجئين الذين أُجبروا على الخروج من البلاد نتيجة للفظائع التي ارتكبها نظام الأسد، إذ تشكل عودتهم اليوم عبئاً كبيراً على إدارة البلاد في ظل استمرار تردد المجتمع الدولي ومراقبته للوضع في سوريا واشتراطاته على إدارتها، فالنسبة التي عادت قليلة (2) في المئة، وربما عاد بعض منهم بدافع الاطمئنان على ممتلكاتهم التي تركوها، أو الهروب من ظروف المعيشة والتمييز ضدهم في البلدان المضيفة، إذ جعلت المصاعب الاقتصادية وتكاليف المعيشة المرتفعة والفرص المحدودة الحياة غير محتملة بشكل متزايد، أو لرؤية عائلاتهم.
يعتمد مستقبل سوريا على قرار تاريخي، يشارك فيه المجتمع الدولي والمنظمات غير الحكومية، قرار يسهل عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم من خلال السعي لتلبية احتياجات السوريين، وأولى استحقاقات ذلك القرار، رفع العقوبات وتقديم الدعم اللازم لإعادة إعمار البلاد.
العائدون وجدوا بلدهم يختلف اختلافاً عميقاً عن البلد الذي غادروه، فقد أدى تدمير المنازل والبنية التحتية الأساسية، وفقدان أحبائهم، وانتشار الفقر على نطاق واسع، وحالة الغموض التي تحيط بمستقبل البلد ورؤية القيادة الجديدة إلى جعل الحياة لا تطاق بالنسبة للملايين الذين لا يزالون في سوريا، ومن شأن عودة اللاجئين الآخرين أن يخاطروا بتفاقم الوضع المتردي أساساً، بعد أن كانوا مصدر عون لأهاليهم في الداخل.
يعتمد مستقبل سوريا على قرار تاريخي، يشارك فيه المجتمع الدولي والمنظمات غير الحكومية، قرار يسهل عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم من خلال السعي لتلبية احتياجات السوريين، وأولى استحقاقات ذلك القرار، رفع العقوبات وتقديم الدعم اللازم لإعادة إعمار البلاد، ومن طرف الإدارة الجديدة، السعي إلى إصدار قوانين لحل مشكلات الملكية (البيوت والأراضي)، وتوفير فرص العمل وحل مشكلات التعليم الناتجة عن الفروق بين المناهج واللغات، إن سوء إدارة العودة الجماعية ستؤدي إلى استنزاف الموارد المحدودة أصلاً في البلاد، مما يسبب ضغطاً هائلاً على الإدارة الانتقالية ووكالات الأمم المتحدة والمجتمع المدني السوري للاستجابة لاحتياجات مواطني البلاد بطريقة تعزز الاستقرار وتوفر سبل العودة الكريمة، ورمي كل ذلك العبء على كاهل الحكومة الانتقالية يهدد بإثارة التوترات وتقويض الاستقرار الهش في أعقاب سقوط الأسد.
سيترتب على الفشل في تنسيق عودة اللاجئين السوريين عواقب وخيمة على سوريا وعلى البلدان المضيفة، خاصة المجاورة منها، وعلى اللاجئين السوريين أنفسهم.
ويتوقف استقرار سوريا على التعافي الوطني الذي يعتمد على رفع العقوبات المفروضة وانتهاج سياسة تشاركية تفسح المجال لجميع الخبرات والسعي لتحقيق العدالة، خاصة تجاه المهمشين، فمستقبل سوريا مرهون بقرار دولي ومحلي يسعى من جملة أمور إلى تحقيق العودة الآمنة والكريمة للاجئين الذين سيساعدون في إعادة بناء دولة دمرها نظام الأسد، وإلا فإنها قد تؤدي إلى إرباك الحكومة الجديدة والبلاد بمشكلات كبيرة، وبالتالي تفتح الباب لأن تنزلق سوريا من جديد إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، وهي كلفة كبيرة على البلاد وعلى اللاجئين يجب ألا نجربها مرة ثانية.
المصدر: تلفزيون سوريا