عبد اللطيف السعدون
ليس كثيراً على أهل غزّة أن يكونوا أدرى بشعابها، وليس كثيراً عليهم أن يعرفوا تضاريسها شبراً شبراً، وأن يرصدوا سماواتها نجمة نجمة، وأن يعشقوا إطلالتها المضطجعة على البحر، حاملة لهم نسائم السلام والحرية، وأن يستعيدوا معالمها على امتداد تاريخها الموصول إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وأن يذكُروا بالخير كل من بنى مساكنها الأولى، وأن يحفظوا، عن ظهر قلب، أسماء شهدائها الراحلين واحداً واحداً، وقد بلغ تعدادهم في معركة طوفان الأقصى المديدة، وحتى ساعة كتابة هذه المقالة 48 ألفاً و271 شهيداً.
اكتشف أهل غزّة عبر هذا كله أن مدينتهم عصيّة على النسيان، وهي ليست نقطة باهتة على الخريطة، حتى يجوز لمن يشاء أن يخطّط لمحو صفحات تاريخها العريض، وهي أيضاً ليست جزيرة معزولة، حتى يفكر أحد في تحويلها إلى “ريفييرا” رقص وعبث ومقامرة، يبيت فيها قطاع الطرق والمهربون وزارعو الحشيش.
وهكذا فإن غزّة التي يعتبرها أهلها تاج فلسطين، وأيقونة المدن العربية، تأبى أن تكون غير ما نعرفه عنها، وترفُض أن يُصنع لها تاريخ جديد أو جغرافية مصطنعة، هي لا تريد سوى أن تكون هي هي، بهويتها الفلسطينية العربية، وبناسها المؤمنين بها، والمدافعين عنها، والعاملين على بنائها وإعمارها من جديد. وهي لا تطمح بأكثر من أن يعيد إليها العالم حرّيتها التي اغتصبها شذاذ الآفاق واللصوص.
وأهل غزّة حين يفكرون في “اليوم التالي” فلأنهم أصحاب الحق الشرعي في تقرير مصيرهم، ومصير أرضهم على النحو الذي يكفل لهم حياتهم وحريتهم، ويحافظ على هويتهم، ويتيح لهم الفرص لإعادة بناء ما دمّره الأعداء الذين أوغلوا فيها، ولا يزالون، خراباً على خراب، وتراها بعد 27 شهراً، وهي غرقى بالدم والدموع، والوجع الذي لا يعرف الحدود.
إسرائيل، وإن لم تنتصر، ولم تحقق ما كانت تريده، إلا أنها تشعر بفائض قوة تستمدّه من الرعاية والمساندة المطلقة التي تمنحها لها الإدارة الأميركية
إلى ذلك، وقد أوشك “اليوم التالي” أن يبدأ، يدرك الجميع، ومنهم أهل غزّة، أنه لا بد من معادلة تتقصّى خيارات، وترسم مآلات ونتائج، وقد شمّر كل طرفٍ عن ساعديْه ليضع بصماته، مع إدراك أن ما هو مطروحٌ على الطاولة من الصعوبة أن يحقق إجماعاً من كل اللاعبين، خاصة بعدما جرت المياه في أكثر من اتجاه، وبعد أن حدثت متغيراتٌ مهمّة لا بد من أخذها بنظر الاعتبار في أية معادلة جديدة.
المتغير الأول أن حركة حماس لم تُهزم ولم يُنزع سلاحها كما أراد لها العدو، كما أنها لم تنتصر، وهذا ما يفرض عليها أعباء جديدة، ومن نوع مختلف عما كانت تتصدّى لفعله في السابق. وعليها هنا أن تعدّ نفسها لعملية صلح وتصالح مع سواها من المنظّمات والحركات الفلسطينية، وقد يُفضي ذلك إلى تقليص قدرتها على الفعل الميداني، لكن هذا هو الخيار الذي قد يكون أهون عليها من أية خيارات أخرى يُراد فرضها بهدف تصفيتها وإنهائها.
المتغير الثاني أن إسرائيل، وإن لم تنتصر، وفي النهاية لم تحقق ما كانت تريده، إلا أنها تشعر بفائض قوة تستمدّه من الرعاية والمساندة المطلقة التي تمنحها لها الإدارة الأميركية، بخاصة من شخص الرئيس دونالد ترامب نفسه، وهذا ما تعتبره هي “اللحظة التاريخية” بالنسبة لها، وتريد استثمارها بالمضي في مخطّطاتها للحصول على أكبر قدر من المكاسب، كما تعتبره فرصتها لتحقيق وضع جديد لغزّة ولحركة حماس، يضمن ما تسميه أمنها القومي، ويعزّز خططها في بناء مستوطنات وأحياء جديدة.
المتغيّر الثالث، وهو الأهم، أن سلسلة المواقف التي أعلنها ترامب، ابتداء من فكرة تهجير أهل غزّة، وتوطينهم في مصر والأردن، وربما في أماكن أخرى، وانتهاء بتحويلها الى “مستعمرة أميركية” سياحية خالصة، تصبّ كلها في خدمة إسرائيل، ويراد منها تصفية القضية الفلسطينية على النحو الذي بشر به قادة الحركة الصهيونية الأوائل، وفي هذه الحال لن يبقى من فلسطين التاريخية سوى دويلة محمود عبّاس التي لن تكون لها أية قيمة اعتبارية، والاستسلام لهذا المخطط يجعل من القضية نفسها، وحتى من “حل الدولتين” مجرد ذكرى من الماضي.
ما العمل إذن؟ … الخطّة العربية المطروحة للنقاش في مؤتمر القمة الطارئة المنتظر عقده بعد أيام تعتمد على تنحّي “حماس” عن المشهد، وإن مؤقتاً، على أن تدير سلطة رام الله قطاع غزّة، مع إقامة صندوق لإعادة الإعمار تضمنه دول خليجية، بهدف تفويت الفرصة على مخطّطات ترامب، مع أن “حماس” لا تزال تعتبر نفسها عنصراً فاعلاً ونشيطاً، وتريد أن تظل رقماً صعباً، وقد لا تقبل بخطّة كهذه.
وفي كل الأحوال، ينبغي أن يظل الهدف خروج أهل غزّة والفلسطينيين والعرب من المأزق الذي وضعهم فيه ترامب بأقل قدر من الخسائر، وأن يضمنوا سلامة غزّة، ويدعموا صمود أهلها.
المصدر: العربي الجديد