حسن النيفي
ثمة شغف متزايد لدى كثير من المثقفين والناشطين السوريين بالإصرار على مقاربة مسائل وقضايا دون غيرها، وجه الغرابة يكمن في أن تلك القضايا المُستهواة عند هؤلاء قد لا نلمس لها حضوراً متميّزاً في الواقع، ولكن بالتأكيد لها حضور قوي ومتجذّر في أذهان أصحابها حصراً، وهذا ما يجعلهم لا يرون الوقائع كما هي في العيان، بل كما هي مُتَخيّلة في تصوّراتهم وقناعاتهم، بل ربما جعلوا من تلك التصوّرات حقائق مطلقة تتجاوز حتميةُ وجودها أو حدوثها أيَّ نقاش أو مراجعة أو حوار.
وهكذا تعاطى معظم هؤلاء مع قضايا الثورة السورية ومفاهيمها طيلة أكثر من عقد، بل انتهى البعض منهم إلى حالةٍ من الاستعلاء وعدم مخاطبة الناس إلّا بلغة التقريع والاستخفاف، ليقينه المطلق بأنه يرى ما لا يراه الآخرون.
ولا شك أن حالةً كتلك من النرجسية تبدو أقرب إلى مهنة (الكَهَنة) منها إلى طرق التفكير السليمة، وسوف تُلمح هذه المقالة بإيجاز شديد إلى مسائل ثلاث شهدت جدلاً بين السوريين وجسّدت نمطاً من التفكير لدى طيف واسع من المثقفين والساسة طيلة سنوات الثورة.
أولاً – في جدوى عسكرة الثورة:
واجهت عملية ردع العدوان منذ انطلاقتها في السابع والعشرين من تشرين الثاني الماضي، انتقادات حادّة وصلت إلى درجة التجريم، ولا يحمل هذا الموقف الناقد أي جديد طالما أنه جسّد استمراراً لهجوم شديد على جميع مظاهر العسكرة في الثورة، لذلك لم يستند الناقدون للعملية العسكرية إلى معيار الربح والخسارة أو خطة المعركة أو توقيتها أو أهدافها، بل هم في الأصل رافضون لأي عمل عسكري يستهدف نظام الأسد، ليقينهم بأن من أفسد الثورة وأحدث فيها شروخات هائلة ومهّد لجميع أشكال التدخل الدولي هو جنوح الثورة من الحالة السلمية إلى طور الكفاح المسلّح.
ربما كان من المُتوقع أن نشهد مقاربات فكرية وسياسية جديدة للتيار الثقافي والسياسي الناقد لعسكرة الثورة، تتجاوز هذه المقاربات مفهوم الخير المطلق والشر المطلق..
ربما كان جزء كبير من هذه الآراء الناقدة صحيحاً، ولكن -بحسب رأي آخرين- ليس لأنّ الكفاح المسلّح أمر خاطئ من حيث المبدأ، بل بسبب تعدد الجهات التي حملت السلاح من جهة، وفساد الكثيرين من هؤلاء من جهة أخرى، وقد استند مؤيدو المقاومة المسلّحة إلى أن نظام الإبادة والتوحّش الأسدي لا يمكن إزالته إلّا بالقوّة، أمّا القول بأن المظاهرات السلمية كانت كفيلة بإسقاطه لولا عسكرة الثورة، فهي فرضية قائمة على مجرّد الوهم ولا تعضدها أي معطيات واقعية.
لقد سقط نظام الأسد نتيجة عملية عسكرية، استطاع القائمون عليها تحرير سائر المدن الكبرى والوصول إلى العاصمة دمشق، وربما كان من المُتوقع أن نشهد مقاربات فكرية وسياسية جديدة للتيار الثقافي والسياسي الناقد لعسكرة الثورة، تتجاوز هذه المقاربات مفهوم الخير المطلق والشر المطلق، لتكون أقرب إلى التفكير الذي يستلهم الواقع ويحكم على الأمور من خلال جوانبها المختلفة وليس استناداً إلى ذخيرة القناعات السابقة، إلّا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل ربما نجد أن أشدّهم عداءً لمفهوم العسكرة هو اليوم أكثرهم حماساً وتنظيراً لمرحلة ما بعد الثورة.
ثانياً – جدوى الحل الأممي في الحالة السورية:
جسّد القرار الأممي (2254) مرجعية أممية باتت محطّ إجماع كل الأطراف ذات الصلة بالصراع في سوريا، إلّا أن نظام الأسد كان شديد الوضوح في رفضه لتلك المرجعية، كما كان شديد الوضوح في تبرير تفاعله الشكلي مع القرار الأممي من خلال مشاركته بمسار اللجنة الدستورية بأنه ليس أكثر من استثمار للوقت ومشاغلة للرأي العام.
ولعل عبارة (سنغرقهم بالتفاصيل) كانت تترجم مفعولاتها منذ صدور القرار المذكور في كانون الأول 2015 وحتى فرار الأسد، ولكن على الرغم من ذلك، ظلّ قسم كبير سواء من المعارضة الرسمية أو غير الرسمية وكذلك عدد كبير من فعاليات المجتمع المدني والشخصيات الفكرية والسياسية يعتقدون أن القرار المذكور هو السبيل لإنهاء مأساة السوريين، بل إن قسماً كبيراً من أصحاب هذا الرأي بات يرى أن استمرار الأسد في السلطة بات أمراً واقعاً، والتفاوض مع نظام دمشق ينبغي أن يتجاوز مفهوم التغيير، ليقف عند المسائل الإنسانية فقط، كعودة المهجرين والنازحين والإفراج عن المعتقلين، أي باتت الترجمة الفعلية لما يُدعى (السياسة الواقعية) هي مراسيم عفو يصدرها بشار الأسد، وعفا الله عما مضى.
جدير بالذكر أن الذين عملوا وبدأب وإخلاص على إيجاد مسارات نضالية أخرى لمواجهة نظام الأسد (كالمسار القضائي) هم من خارج الأطر الرسمية للمعارضة الرسمية والأحزاب السياسية، ولعل ما هو لافتٌ أن الذين يدافعون عن القرار الأممي المذكور حتى الآن يدركون جيداً أن هذا القرار، وطيلة تسع سنوات خلت، لم يفض إلى الإفراج عن معتقل أو معتقلة ولا استطاع حقن دم مواطن سوري ولا أعاد نازحاً إلى بيته، فكيف سيكون الضامن والناظم السليم لعملية انتقال سياسي يتطلع إليها السوريون في الوقت الحاضر؟
ثالثاً – فرضية تقسيم سوريا:
ركون الكثير إلى التسليم ببقاء سلطة الأسد نتيجة عدم توافق عربي ودولي على تغييره وكذلك نتيجة محاولات إعادة تعويمه عربياً ودولياً، دفعهم إلى التسليم -كذلك- بتكريس مناطق النفوذ التي تحكمها سلطات أمر واقع متعددة، ولكن تكريس هذا الواقع المُقَسّم يحتاج إلى شَرْعنة دستورية، الأمر الذي يستدعي المزيد من التفاهمات والحوارات بين السوريين، وبالفعل أصبح مفهوم (الفدرالية واللامركزية السياسية) الشغل الشاغل لكثير من ورشات العمل واللقاءات والمنتديات، فضلاً عن عدد من مراكز الأبحاث التي وجدت في تلك المفاهيم مادة دسمة للاشتغال عليها، إلى درجة يخيّل للمرء فيها أن جذر المشكلة السورية يتجسّد بصراع قومي وديني أو طائفي وليس بنظام الإبادة الأسدي.
من الصحيح أن عملية (ردع العدوان) جاءت متجاوزةً جميعَ التوقعات، بل ربما كان منجزها مبعث ذهول لأكثر السوريين، ولكنها في الوقت ذاته ليس فعلاً يُنسبُ إلى الغيب، بل هي ثمرة تفكير وتخطيط ثم تنفيذ، وبالتالي يمكن اعتبارها تجربة تحرّرية حقّقت الكثير ممّا تطلع إليه السوريون..
وما هو جدير بالملاحظة أنه حتى بعد التحرير ما تزال طروحات التقسيم تُطرحُ كوصفة جاهزة لمواجهة أي مشكلة، ولعل من يطالب باستقلال ذاتي للجنوب السوري، أو للمحافظات الشرقية السورية، في الحالة الراهنة مثال شديد الوضوح على هذا المنحى من التفكير.
لعله من الصحيح أن عملية (ردع العدوان) جاءت متجاوزةً جميعَ التوقعات، بل ربما كان منجزها مبعث ذهول لأكثر السوريين، ولكنها في الوقت ذاته ليس فعلاً يُنسبُ إلى الغيب، بل هي ثمرة تفكير وتخطيط ثم تنفيذ، وبالتالي يمكن اعتبارها تجربة تحرّرية حقّقت الكثير ممّا تطلع إليه السوريون، وذلك رغم أنها جاءت خلافاً لما توقعه الكثيرون، أو من الذين يخالفونها -فكراً وممارسةً- في الأصل، فلم لا يتحوّل هذا الذهول إلى محاولات فكرية جادّة نحو إعادة مقاربة لجميع الأفكار السابقة بهدف المراجعة المستمرة والناقدة لكل ما اختزلته سنوات الثورة من أفكار وسلوك ومعاناة بغية تجديد الوعي وتطوير طرائق التفكير التي تبدو كضرورة مهمّة لسوريا ما بعد الأسد.
المصدر: تلفزيون سوريا