محمود الريماوي
بين الأخبار والتقارير الغزيرة، التي ترد من دمشق، منذ التغيير الذي شهدته سورية (في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024)، ثمّة خبر فريد بُثّ الأربعاء الماضي (19 فبراير/ شباط الجاري) يتعلّق بزيارة وفد من السوريين اليهود دمشق، برئاسة الحاخام يوسف حمرا، الذي كان مقيماً في دمشق حتى العام 1992، إلى أن دُفِع إلى المغادرة مع خمسة آلاف من أبناء الطائفة، ولم يتبقَّ منهم منذ ذلك الحين سوى سبعة أشخاص من كبار السنّ يقيمون في دمشق القديمة. وكان والد هذا الحاخام، إبراهام حمرا، رئيساً للطائفة في سورية، وتوفّي في 2021، ودفن في الدولة العبرية. أمّا الابن يوسف، الذي زار دمشق قبل أيام، فقد اختار الإقامة في الولايات المتحدة، التي وفد منها لزيارة بيته، واستعادة ذكرياته في حارة اليهود (حي الأمين بدمشق).
قد لا تكون للخبر دلالة سياسية مباشرة في غمرة الأنباء الأشدّ أهميةً بالفعل، وبالذات التوغلات الإسرائيلية الخطيرة، وإقامة مراكز تموضع داخل الأراضي السورية، وعلى عمق نحو 15 كيلومتراً، والاندفاع نحو تدمير الممتلكات والمنشآت العسكرية السورية، غير أن الحدث المتعلّق بزيارة وفد سوري يهودي موطنهم يحمل، في الوقت ذاته، مؤشّرات على جانب من الأهمية، فبإفساحها المجالَ أمام زيارة هذا الوفد، فإن السلطات السورية الجديدة تدلّل حقّاً على انفتاحها على جميع المكوّنات السورية، ولا تجد ضيراً أو غضاضةً في أن يعود سوريون يهود للزيارة، أو ربّما للإقامة مجدّداً في الوطن الأمّ، بغير عوائق تذكر. وقد أفيد بأن مسؤولين في الخارجية السورية، بينهم نائب الوزير، قد استقبلوا الوفد. والمؤشّر الثاني، ذو الأهمية، أن هذه الزيارة تعيد إلى الأذهان انحدار جمهرة غفيرة من اليهود من بلدان عربية، وأن بعضهم قد غادر نتيجة العسف، وبعضهم الآخر غادر بملء إرادته نتيجة الإغراءات الإسرائيلية الكثيفة، كما حدث مع يهود اليمن. وبالتالي، فإن مَواطن هؤلاء دول عربية، وهو ما عملت الدولة العبرية على طمسه، إذ يسمحون لأيّ يهودي وافد بالإشارة إلى جذوره، باستثناء من هم من أصول عربية، إذ يحظر عليهم ذلك، فيُعرَّف اليهودي العراقي بأنه “من مواليد بغداد” وكفى، وكذلك اليهودي المغربي، “من مواليد كازابلانكا”، وسواهم من يهود المنطقة العربية. وقد أُحلّ هؤلاء المهاجرون منذ العام 1950، وعلى دفعات متتالية، في أراضي الفلسطينيين وبيوتهم، التي استُحوِذ عليها بسطوة الإرهاب المسلّح في حرب 1948.
إثر صلاة قام بها الوفد في كنيس الإفرنج، أعرب رئيس الطائفة اليهودية في سورية، بيخور شمنطوب، عن سعادته لاستقبال الحاخام حمرا ونجله. وقال شمنطوب: “سعيد بمجيء الوفد من الولايات المتحدة. أحتاج لوجود يهود معي في الحارة”، آملاً أن “يعود اليهود إلى حارتهم وشعبهم في سورية”. أمّا صفحة “يهود الشام” في “فيسبوك”، فقد نشرت بياناً عبّرت فيه عن تقديرها هذه المبادرة، ووجّهت الشكر للإدارة السورية الجديدة، ورئيسها أحمد الشرع، وممثّله أحمد بدرية، لدعمهم “عودة اليهود السوريين إلى وطنهم”، في إشارة صريحة إلى أن سورية هي وطن اليهود السوريين، كما هي وطن بقية الطوائف والأديان والإثنيات. وفي رسالة وجّهها إلى اليهود السوريين، في مختلف أنحاء العالم، قال مدير فريق الاستجابة للطوارئ في المنظّمة السورية للطوارئ، معاذ مصطفى، إن “وطنكم آمن، وبإمكانكم العودة”.
بإفساح السلطات الجديدة المجال أمام زيارة الوفد اليهودي بقيادة حمرا دمشق تدلّل على انفتاحها على جميع المكوّنات السورية
وبينما تروّج حكومة بنيامين نتنياهو تهجير أبناء غزّة من وطنهم، وفق منظور استعماري تقليدي، فإن فتح الباب أمام عودة يهود سوريين إلى وطنهم تدلّل على أن الباب ينبغي أن يُفتح لعودة من يشاء من يهود عرب (أو غير عرب)، إلى مواطنهم التي غادروها كُرهاً أو طوعاً، وليس لإخراج الفلسطينيين من وطنهم، الذي لا وطن لهم سواه، كما كان يقول الكاتب الراحل إميل حبيبي، وأن أبناء قطاع غزّة، إذا كان لهم أن يغادروا القطاع، فإلى بلداتهم الأصلية في النقب، وفيما يُعرف بـ”غلاف غزّة”، وليس إلى أي مكان آخر. ويستذكر المرء بالمناسبة أن ملك المغرب، الراحل الحسن الثاني، قد دعا في 1972 من يشاء من يهود المغرب إلى العودة إلى وطنهم، واستعادة صفة المواطنة في البلاد، وهي من المرّات النادرة التي جرى فيها توجيه مثل هذا النداء من زعيم عربي. والمهم في المسألة، وبصرف النظر عن النتيجة التي آلت إليها هذه الدعوة، هو التأشير إلى أن مواطن اليهود الإسرائيليين تقع في أمكنة أخرى، بعضها ديار عربية وإسلامية مثل المغرب. وسبق لرئيس الموساد السابق يوسي كوهين أن كتب في بحر العام الماضي في صحيفة هآرتس، في معرض انتقاده فتح الجبهات على غزّة ولبنان: “اليوم، وبعد ثمانين يوماً من الأخطاء والتقديرات غير المدروسة، تجد دولة إسرائيل نفسها، للمرّة الأولى منذ 1948، في صراع الوجود واللاوجود. سأكون أوّل من يعلّق الجرس، وليسمعني اليوم جميع بني وطني، إذا استمرّ هذا الفريق في قيادتنا فنحن عائدون إلى بولندا وروسيا وبريطانيا وأميركا، وذلك إذا سمحوا لنا بالعودة”. وهي إشارة صريحة إلى المواطن الأصلية، التي ينحدر منها أفراد المجتمع الإسرائيلي، بالرغم من حديثه عن أبناء “وطنه”.
أمّا الفلسطينيون، فلم يأتوا من وراء البحار والمحيطات، بل كانوا (وما زال نصفهم) مقيمين في أرض آبائهم وأجدادهم على مرّ العصور، قبل أن تتدفّق الهجرة إلى فلسطين بصورة ملحوظة مع مطلع القرن العشرين، وتتكاثف من بلدان شتى، بدعم من الانتداب البريطاني، المولج آنذاك بتنفيذ وعد بلفور على حساب المواطنين أبناء البلاد. ومن تفاهة هذا الزمان ومساخره، أن ينشط المستوطن الأوكراني بتسلئيل سموتريتش، وزميله المستوطن الكردي إيتمار بن غفير، في حملة مسعورة، ترمي لاقتلاع الفلسطينيين من وطنهم في قطاع غزّة والضفة الغربية، فالأَولى والأقرب إلى طبيعة الأشياء ومنطق الأمور، أن يعود هذان المستوطنان إلى بلديهما، فيُريحان ويستريحان.
المصدر: العربي الجديد