تدور هذه الأيام مناقشات عديدة حول ما يسمى “الإسلام الوطني الديمقراطي”، أو “ما بعد الإسلام السياسي”، في إشارة إلى تطورات تجري داخل منظمات الإسلام السياسي العربية، ولا سيّما جماعات الإخوان المسلمين وما شابهها، أو خارج هذه المنظمات، باتجاه تكوين تيارات تعتمد المرجعية الإسلامية، لكنها لا ترفع شعار “الإسلام هو الحل”، بل تعمل من أجل بناء الدولة المدنية الديمقراطية، المحايدة تجاه الدين، التي تقرّ بالمواطنة المتساوية للجميع، بغض النظر عن الانتماء الديني أو العرقي، وبغض النظر عن الجنس أو الطائفة، وتصون حرية الضمير والمعتقد والتعبير والنشر، والحق في تنظيم الأحزاب والجمعيات والنقابات.. إلى غير ذلك، مما يعرف بالحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ويشير مؤيدو إمكانية نشوء مثل هذه التيارات إلى تجارب مثل تجربة حزب النهضة التونسي، وحزب العدالة والتنمية المغربي، وحزب العدالة والتنمية التركي، هذه الأحزاب التي انخرطت في العملية الديمقراطية، وشاركت أحزابًا أخرى (علمانية وغير دينية) في السلطة، والتزمت أصول “اللعبة” الديمقراطية ونتائج صناديق الاقتراع.
ولكن، كيف يكون الحزب السياسي ذا مرجعية إسلامية، ويقبل في الوقت نفسه بمبادئ النظام الديمقراطي؟ أليس الإسلام دينًا ودنيا؟ ألا تتضمن الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي أحكامًا تختلف عن تلك التي تتبناها الأنظمة الديمقراطية؟
الواقع أن هناك قراءات متعددة للإسلام، وبخاصة للشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي. فإذا صرفنا النظر عن المنظمات المتطرفة التي تدعي الإسلام، مثل (داعش) و(النصرة) وأمثالهما، على اعتبار أن معظم منظمات الإسلام السياسي والمفكرين الإسلاميين يرون في فكر هذه المنظمات وسلوكها خروجًا واضحًا عن تعاليم الإسلام “الصحيح”، فإن هناك ضمن هذا الإسلام “الصحيح” قراءات عديدة، يختلف جذريًا بعضها عن بعض. لننظر مثلًا إلى كيفية فهم آيات الله في جمهورية إيران “الإسلامية” لما يعتبرونه الإسلام الصحيح، ولنقارنه مثلًا برؤية الإخوان المسلمين السوريين للإسلام الصحيح، ورؤية الوهابية للإسلام الصحيح. حتى بين فقهاء السنّة أنفسهم هناك اختلافات واضحة في المواقف والرؤى، وفي الفتاوى أيضًا. بل أكثر من ذلك، الفقيه الإسلامي نفسه تختلف آراؤه وفتاواه بين فترة وأخرى، بحسب موقفه من الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي يمر بها. (انظر مثلًا كتاب محمد جمال باروت الموثق عن فتاوى ابن تيمية خلال الحملات الكسروانية، وكيف تناقض إحداها الأخرى، تبعًا لما يفرضه الحاكم، أو تفرضه ظروف الصراع السياسي).
فإذا كانت هذه هي الحال؛ فلماذا لا توجد قراءة إسلامية تنطلق من رؤية واقع سورية والسوريين اليوم، فتؤسس لتيار وطني ديمقراطي بمرجعية إسلامية؟
من أمثلة مثل هذه القراءة ما يكتبه المفكر الإسلامي محمد حبش حول عدم تعارض الإسلام مع الديمقراطية واتفاقه التام مع حقوق الإنسان التي أقرتها الشرائع الدولية. ومنها قراءة الدكتور أحمد طعمة، رئيس الحكومة السورية المؤقتة السابق، الذي يؤكد على وجوب “العودة إلى القرآن والسنة قطعية الوثوق” (ولكن النص القرآني حمّال أوجه)، ويرى أن من أهم الأخطاء التي وقعت فيها تيارات الإسلام السياسي “منح الأولوية للنقل بدل العقل”، وتمسكها بمقولة أن “لا اجتهاد في ما ورد فيه نص”. وقد التقطتُ من مقابلة أجراها الدكتور طعمة مع برنامج “الطريق إلى الجمهورية” (نشر على صفحة حزب الجمهورية في فيسبوك) قوله: “أمَسّ ما نحتاج إليه اليوم: فصل الدين عن السلطة وليس عن المجتمع، حقوق الإنسان، الحريات العامة، الديمقراطية، الفصل بين السلطات، استقلال القضاء، أن يكون هناك رأي ورأي آخر”.
لا أرى فرقًا جوهريًا بين مثل هذا القول وبين العلمانية التي تقول بـ “فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية”، وتقول بحيادية الدولة حيال الأديان، وتترك للفرد حرية التدين والاعتقاد بما يشاء. لكن دعاة الإسلام السياسي شوهوا مفهوم العلمانية بالربط بينها وبين الإلحاد والكفر. أما العلمانيون فيرون أن الدين هو مجال علاقة الفرد بربه (مجال السماء)، بينما تكون السياسة مجال العلاقات بين الناس (مجال الأرض). ولذلك لا صحة على الإطلاق لما يقال من أن العلمانية تساوي الإلحاد، أو أن العلماني هو الشخص غير المتدين. فالعلمانية تعني حرية الفرد في التدين، وأن لا تكون الدولة خاضعة للمؤسسة الدينية.
إذا كان هناك إقرار بحرية الضمير والمعتقد؛ فهذا يعني أن الفرد في المجتمع حر في أن يعتنق الدين أو المذهب الذي يشاء، أو أن لا يعتنق أي دين أو مذهب. هل يقر تيار الإسلام الوطني الديمقراطي، أو تيارات “ما بعد الإسلام السياسي” بهذا المبدأ؟ إذا كان الجواب نعم؛ فلا مشكلة لأنصار العلمانية والديمقراطية (وأنا منهم) معهم. وأرى ضرورة العمل على إقامة تحالف سياسي وثيق، بين جميع دعاة الدولة الديمقراطية المحايدة تجاه الأديان، بمن فيهم من يعدّ نفسه إسلاميًا.
هناك مسألة يطرحها المشككون في إمكانية وجود مثل هذا التيار الإسلامي، لا بدّ من مواجهتها ومعالجتها معالجة جذرية من قبل أنصار الإسلام الوطني الديمقراطي أنفسهم. هي أن الإسلاميين يقبلون بالرأي الآخر وبصناديق الاقتراع، طالما ظلوا في المعارضة، أو ظلوا الطرف الأضعف في السلطة، أو طالما لم يمسكوا بمفاتيح السلطة الأساسية على الأقل، وينقلبون على الديمقراطية متى تمكنوا من السلطة السياسية. فإذا قيل لهم إن حزب العدالة والتنمية في تركيا يحكم البلاد منذ 16 عامًا، أجابوا بأن العلمانية التركية يحميها الجيش والدستور، وربما أجابوا أيضًا بأن هناك خطرًا على هذه العلمانية، بعد فوز رجب طيب أردوغان بالرئاسة، في ظل انتقال النظام من برلماني إلى رئاسي، يتمتع فيه الرئيس بسلطات واسعة.
لعل الحلّ يكمن اليوم في إقرار مبادئ فوق دستورية، غير قابلة للتعديل، وتحميها أجهزة الدولة (الجيش والأمن والشرطة…) المحايدة والبعيدة عن التدخل في الشؤون السياسية. لكن الحل الجوهري الدائم يتمثل في خلق البيئة الاجتماعية المناسبة لانتشار أفكار حقوق الإنسان والديمقراطية. ويبدو أن هذه البيئة ما تزال بعيدة المنال في سورية، في المدى المنظور على الأقل.
المصدر: جيرون