تداعيات التقدم العسكري لقوات النظام في الجنوب بغطاء جوي روسي، ومن قبله في الغوطة وريف دمشق وحلب، جعلت الكثيرين يهرطقون بأحاديث النصر والهزيمة، وهم قطاع واسع من أنصار الثورة وأبنائها ويقصدون ضرورة الاقرار بالفشل تأسيسًا لمرحلة جديدة من المواجهة مع نظام مجرم وقاتل لشعبه، كما يروج البعض مستغلين الحالة والواقع (للمصالحة الوطنية) والعودة الى ما كان قبل ثورة الحرية والكرامة في آذار/ مارس 2011، في مقابل فريق آخر يزعم لنفسه الانتصار على (المؤامرة) ودحضها ويجاهر بوقاحة شديدة بضرورة الانتقام والمحاسبة (بدأ النظام بسن قوانين وتشريعات بهذا الخصوص) لكل من وقف مع ضميره وأخلاقه وحسه الفطري في مواجهة الحيف والظلم والتمييز.
الانتصار والهزيمة نسبيان، وفي مواضع كثيرة مجازيان، ولكل منهما فلسفتهما الخاصة ومنطوقهما، عند بحثهما بعلمية وواقعية شديدتين، ومن نافل القول إن الثورات ليست مباراة بين طرفين لها لحظة بداية ونهاية وخاسر ومنتصر تنتهي بتتويجه بطلا مظفرا.
نعم هناك من هزم عسكريا وسياسيا وأخلاقيا وهناك من انتصر من كلا الفريقين، ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال انتهاء الثورة، أو توقفها، والحكم ببطلانها وعدم مشروعيتها واستمرارها بأدوات ووسائل جديدة، والكف عن النضال لأجل المبادئ العظيمة التي جسدتها، وعملت على تحقيقها.
نعم هناك من هزم من فريق الثورة، مرحليا، وهم ليسوا من حملتها والمبشرين بها، من قبل اندلاعها وحتى الان، أو العاملين على استمرارها حتى تحقيق أهدافها، بالرغم مما أصابهم من انكسار وانتكاسة، بقدر ما هم فريق راهن على الخارج وارتهن له حتى أصبح واضحا في ارتباطه وعمالته تنفيذا لمخططات إقليمية ودولية، يصح عندها الحديث عن المؤامرة على سورية وشعبها صحيحا ودقيقا.
من هزم قوى أدلجت الثورة وطيفتها ومذهبتها، وعملت على مصادرتها وتأميمها، وربطتها بتاريخ مضى، لها، ركبت حوادثه لتبرئة ذاتها من المسؤولية عنه، وهو تاريخ غير مشرف أسس لما وصلنا اليه حتى انها أعطت أسماء معارك و(فتوحات)لمن كانوا بالأمس القريب في الذاكرة الجمعية للسوريين قتلة ومجرمين.
من هزم هم كل القوى والجماعات التي رفعت راياتها بألوان مختلفة من السوداء الى البيضاء، وما بينهما، وخطفت الأنظار اليها بتضمينها لفظ الجلالة، بديلا عن الراية الوطنية الجامعة، ومن أصبح دأبهم وشغلهم تبشيرنا بفتح روما واستعادة الأندلس ومن خلف هؤلاء من صدقوهم ودافعوا عن “بأسهم” في الميدان بعد أن تركوا بلادهم أو نعيم الدنيا للجهاد في “أرض الرباط”، وسطحوا تفكير الكثرة الكثيرة بالاعتقاد أن الديمقراطية وآليات الحكم بدع وضلالة مخالفة لحكم الله وشرعه الذي بدأوا بتطبيقه بإقامة الحدود على الناس واستبدال كل ما هو وضعي وعصري بما يزعمون من افكار وحقوق لهم خارجة من كهوف التاريخ وماضي الزمان.
من هزم فصائل وجماعات تطابقت مع النظام في النهج والممارسة، ومارست كل ما مارسه النظام من تشبيح وتعفيش، مادي ومعنوي، وبعضها غطى، سياسيا وفكريا، كافة الجماعات القادمة من وراء الحدود تحت مزاعم شتى لا تمت للثورة أو الشعب السوري بصلة ثقافية أو روحية.
أيضا، من هزم منظومة أخلاقية كاملة تلطت تحت شعارات وأهداف كانت تدغدغ مشاعر السوريين عقودًا عديدة وهي كانت الأساس المعنوي لثنائية الفساد والاستبداد التي حكمت وتحكمت بسورية وأهلها ردحا طويلا من الزمن.
المهزومون من راهنوا على انتصار حاسم يضعهم على رأس السلطة بديلا موضوعيا عن (مظلوميتهم المزعومة) أو ظنوا الفرصة مواتية لتحقيق أحلامهم المريضة في إقامة كيانات ما دون وطنية بعد أن استيقظت كافة الولاءات والهويات القاتلة التي ارتدت على أصحابها.
تطول قائمة المهزومين من فاسدين ومتسلقين وخونة وعملاء، مرورا بأدعياء الحياد والرمادية، أو من هم بلا لون أو موقف، لتصل في نهايتها أو ذيلها لفئة خانت مبادئها وتاريخها وقناعاتها ومشت في ركب موجة بل موجات لا تمت للوطنية ومعانيها الأصيلة والنبيلة بصلة، ولا لقيم النضال والوطنية الصرفة التي مثلتها وادعتها حقبا طويلة فأعطتها المكانة والاحترام والرصيد الوطني الطيب.
المنتصرون ولاشك قلة بالمعنى الوطني والحسابي ولكنهم الضمير الحقيقي للثورة والشعب السوري، فهم الأغلبية الغالبة من السوريين الذين خرجوا في شوراع كافة المدن والبلدات والقرى السورية بصدورهم العارية إلا من الايمان بحقهم في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة وربحوا الرهان التاريخي على سقوط جدران مملكة الصمت والخوف، والذي لازال يحركهم ويدفعهم لإيجاد أفضل السبل للمواجهة والمقاومة، وتجديد طاقاتهم على طريق طويل صعب وشاق الرهان فيه على إرادة السوربين ووعيهم الكامل بضرورات الحرية ومستلزماتها ومقتضيات الوطنية والمحافظة على الهوية الجامعة واقتحام المستقبل بقيم عصرية وحداثية.
من فازوا هم طليعة شعب ونخبته (ليس بالمعنى الغرامشي) وبررته الذين أصبحوا رموزا وأيقونات وشهبًا، وإن كانوا قد قضوا في المعتقلات أو ساحات الوغى أو غيلة وغدرا، ولكنهم قوة دفع وتحفيز لأجيال لن تقبل الضيم والاستكانة.
الذين لم يهزموا قطاع واسع يستشرفون المستقبل ويحثون الخطى لامتلاك ناصيته بالوعي والمقاومة بكافة الأشكال الممكنة والمشروعة برغم ضبابية المشهد وما أصاب الجميع من شروخ عميقة في النفوس والوجدان ولم ييأسوا ولن ييأسوا.