قرأت كتاب الدكتور منير شحود “الانفجار السوري الكبير – الحرية والكرامة بين مخالب المفترسين” (ميسلون للطباعة والنشر والتوزيع، غازي عنتاب، 2017) بشغف شديد. ليس فقط لأنني أعرف مؤلفه من خلال مقالاته ومنشوراته على (فيسبوك)، بل لأن الكتاب يحكي مشاهدات المؤلف الحية ومعاناته المباشرة، خلال السنوات الأولى من الثورة السورية. فالكتاب أشبه بالمذكرات التي يؤرخها شحود ويدعمها بالهوامش والملاحظات، لكنه (الكتاب) في الوقت نفسه، يتضمن قراءة المؤلف للأحداث وتحليله لبعض مجريات الثورة، كما يتضمن رؤيته لمستقبل سورية المنشود.
يحكي شحود، الذي يمثل بحق نموذج المثقف السوري العلوي الرافض للطائفية والمؤمن بالمواطنة المتساوية لجميع السوريين، عن معاناته من جيرانه في اللاذقية الذين يعتبرونه خارجًا على طائفته، بسبب انحيازه إلى الثورة، وعن اضطراره إلى النزوح مع عائلته إلى قريته ثم إلى دمشق، تجنبًا للأذى الذي يمكن لأولئك الجيران أن يلحقوه به؛ وعن مناقشاته واختلافاته مع (صديقه) رياض سيف الذي استضافه في بيته، ولقاءاتهما مع بعض السفراء الأجانب؛ وعن زياراته لتجمعات الثوار في عدة أماكن، وانطباعاته الإيجابية عن سلوكهم تجاهه، وتجاه غيره من “الأقليات”؛ وعن المشاعر التي انتابته أثناء المشاركة في إحدى التظاهرات: “أما المشاعر التي تنتاب الفرد في تظاهرة، بعد عقود على الصمت والخوف، فلا يمكن وصفها ببساطة؛ إنها مزيج من جميع المشاعر وقد تكثفت إلى حدّ الانبهار، كطبخة لذيذة اختلطت فيه الطعوم، فلا تعود تميز أيًا منها. الخوف في التظاهرة مختلف عن مثيله في الأحوال العادية، إذ يتوزع على الجميع فلا يبقى منه غير ارتعاشة عابرة” (ص 74). (سمعت وصفًا مشابهًا من أحد أبنائي عن شعوره أثناء مشاركته في التظاهرة التي انطلقت من الجامع الأموي أوائل أيام الثورة).
كما ينقل فقرات من رسائل وردته من معارضين لآرائه، ويرد على رسالة امرأة طالبته بالوقوف على الحياد قائلًا: “كيف لي أن أقف على الحياد، وقد انتظرت هذه اللحظة طوال حياتي، ودفعت ثمن خياراتي أكثر من مرة، أنا الذي طحنني الاستبداد وعصف بحياتي مثل كثير من السوريين؟” (ص 47)
يقرّ شحود بالحقيقة التي يعرفها كثيرون، لكنهم يخشون الاعتراف بها: “اعتمد النظام على أغلبية علوية في أجهزته الأمنية، بعد أن جرد الطائفة من معظم ركائزها الاجتماعية، فتحول كثير من أبنائها إلى جنود يرتزقون منه ويشدون إزره. وفي بلد جميع مؤسساته مزيفة أو مسيطر عليها من قبل الأجهزة الأمنية، ارتبطت “العلوية” بذهن العامة بدكتاتورية النظام، من دون أن نغفل المواقف الطائفية المسبقة والمتعالية عند بعض الأوساط الدينية للأغلبية السنية، وأخطرها تكفير العلويين وغيرهم، استنادًا إلى فتاوى سابقة، لعل فتوى ابن تيمية أشهرها وأخطرها”. (ص 140)
هنا تكمن، من وجهة نظر المؤلف، الأسباب العميقة لتحول ثورة الحرية والكرامة إلى صراع سني-شيعي، عمل الطرفان (النظام والمعارضة السنية) على تأجيجه. والفكرة الرئيسية المعبر عنها، في ثنايا الكتاب كله، تلخصها الفقرة التالية من الخاتمة:
“إذا كان التطرف يجلب التطرف، وإن التحول في سلوك الإخوان المسلمين نحو العنف الطائفي، أواخر السبعينيات، لا ينفصم عن الممارسات الطائفية لسرايا الدفاع في ذلك الحين؛ فقد اختلطت الأفعال الدموية والردود عليها. كان الإخوان عامة الطرف المعارض الوحيد المستعد لرفع راية “المظلومية السنية”، مقابل فكرة “المظلومية العلوية” التاريخية التي سوقه الطرف الآخر بنعومة ليستقوي بالطائفة العلوية، مغطيًا إياها بقشرة من الشعارات “القومية والتقدمية”. و”لم يكن سلوك سرايا الدفاع والإخوان آنذاك سوى (بروفة) لما سيجري عام 2011، حيث لم يلبث أن تقابل القمع السلطوي مع ثنائية الأسلمة – العسكرة…”. (ص 237).
يكاد القارئ يجد في كل صفحة من الكتاب إدانة حادة للاستبداد بشكليه “الدنيوي والديني” اللذين تبين في لعبة الصراع “مدى تلازمهما وحاجة كل منهما للآخر، إذ يستحيل الوصول إلى حكم مدني ديمقراطي من دون تجاوزهما معًا…”. وهذه الدعوة للحكم المدني الديمقراطي، تترافق مع رفض جميع مقولات “الإصلاح من الداخل”. فالأنظمة الاستبدادية “غير قابلة للإصلاح”، ففي حالة الاستبداد السياسي في سورية، “أثبتت الوقائع، سواء ما كان منها قبل اندلاع الاحتجاجات أو بعدها، استحالة حدوث التغيير بآليات من داخل السلطة ذاتها”. (انظر ص 244- 248)
والمؤلف، إلى ذلك، يجعل القيم الإنسانية فوق القيم الدينية كلها، ويبرهن على ذلك بأن كثيرًا من الشعوب عرفت قيمًا اجتماعية مهمة، من دون أن ترتبط بدين سماوي كالشعب الياباني مثلًا. ويقول: “إن منبع القيم ليس محصورًا بعقيدة محددة، سماوية أو أرضية، إنما يتعلق بتراكم التجارب الإنسانية، وتطور النظم الأخلاقية والسياسية، بل إن تمثل هذه القيم ذاتها، أي من دون ربطها بالمقدس، قد يكون ترياقًا يقي من الممارسات التي تحدث باسم الدين، وتبرر حتى القتل براحة ضمير منقطعة النظير”. (ص 248)
نقلت هذه الفقرات المتعددة من الكتاب، في محاولة لإظهار الشحنة الأخلاقية والعاطفية التي كتب بها منير شحود أجزاء كتابه، على الرغم من أنه كتبها في ظروف وأوقات مختلفة، كما يبدو. ولأبين كيف نقل المشاعر الوجدانية التي أَحسَّ بصدقها أثناء مشاهدته الأحداث أو مشاركته فيها.
قد تتفق مع مؤلف “الانفجار السوري الكبير” أو تختلف معه، في هذه النقطة أو تلك، وقد ترى في وضعه علامة مساوة، دائمًا تقريبًا، بين “طرفي الصراع”، ولاسيما في ما يتعلق بالمسؤولية عما وصلت إليه الأمور، تجاهلًا لحقيقة أن النظام هو من دفع باتجاه العسكرة والأسلمة، وأن حجم الدمار والقتل والتشريد الذي يعدّ النظام مسؤولًا عنه أكبر بما لا يقاس من مثيله لدى الطرف الآخر، وأن النظام هو من بدأ العنف الذي سبب العنف المضاد (رغم أن شحود يشير إلى ذلك في بعض المواضع)… ولكنك لا تستطيع إلا أن تقدر عاليًا النزاهة والموضوعية في نقل الأحداث، والحرص الصادق على وحدة الشعب السوري، والتطلع إلى سورية ديمقراطية، يسودها القانون ويتمتع أهلها جميعًا بالمساواة التامة أمامه.
أخيرًا، أود أن أهمس في أذن المشرفين على طباعة الكتاب أنني لم أفهم السبب في ترك كثير من صفحات الكتاب فارغة أو شبه فارغة، حيث يترك، في كثير من الأحيان، أكثر من نصف الصفحة فارغًا للانتقال إلى صفحة أخرى، مع أن النص لا يكتمل إلا بالفقرة التالية. وأرجو أن لا يمنع ذلك القارئ من متابعة النصوص المكتوبة بلغة سليمة ومؤثرة.
المصدر: جيرون