من دون ضجيج يذكر، مر إعلان توحد أحد عشر فصيلا عسكريا من فصائل “الجيش الحر”، في كل من إدلب وحلب وحماة واللاذقية تحت لواء “الجبهة الوطنية للتحرير” بنسخته الأولى في 28 من أيار (مايو) 2018.
ومع توحد الفصائل في المرحلة الأولى، احتكر “فيلق الشام”، الذراع العسكري لجماعة “الإخوان المسلمين” وأحد أكبر الفصائل المقاتلة، قيادة الكيان الجديد. واشترط “الفيلق” تعيين قائده العسكري، العقيد فضل الله الحجي، قائداً لـ”لجبهة الوطنية للتحرير” وإعطاء منصبي نائب القائد ورئاسة الأركان لكل من قائد “جيش إدلب الحر” المقدم صهيب ليوش، وقائد “جيش النصر” الرائد محمد منصور، الفصيلين الأكبر عدداً في إدلب وحماة مع تغييب كامل لـ “جيش العزة” الحموي. وإلى ذلك، احتكر “فيلق الشام” القيادة السياسية والعلاقات مع تركيا من دون إشراك أي من رؤساء المكاتب السياسية لتلك الفصائل.
وفي وقت ارتفعت فيه أصوات كثيرة تنادي بضرورة توحيد البندقية ورص الصفوف، إلا أن الخطورة في دمج كهذا، تكمن في تسليم فصائل “الجيش الحر” قرارها كاملاً للذراع العسكري لحزب، أو جماعة سياسية، هي “الإخوان المسلمين” السوريين في تعارض واضح مع الفكرة الأولى لتشكيل نواة “جيش حر” ومحاولة مأسسته ضمن مجالس عسكرية وقيادة أركان فيكون ذراعاً مسلحاً للثورة السياسية.
والحال فإن رمزية “الجيش الحر” تلاشت، وتحول تدريجياً إلى جزء من المشروع السياسي لـ”الإخوان المسلمين” المهيمنين على “الائتلاف الوطني” والذين يعتبرون اليوم الحامل العسكري الرئيس لمسار أستانا التفاوضي.
يفسر الاندماج باعتباره رغبةً تركية بجمع شمل المختلفين في الشمال السوري، حيث بدأ باستدعاء قادة الفصائل إلى أنقرة والضغط عليهم من أجل التوحد بهدف مواجهة التحديات القادمة في إدلب، وتخفيف الضغط الروسي على تركيا
ولعل الأبرز في سياق تحولات الفصائل العسكرية كان اندماج كل من حركة “نور الدين الزنكي”، وحركة “أحرار الشام” الإسلامية، وألوية “صقور الشام”، و”جيش الأحرار”، و”تجمع دمشق” في “الجبهة الوطنية للتحرير”، لما لهذه الفصائل من ثقل عسكري هو الأبرز في مناطق الشمال السوري.
ويفسر الاندماج باعتباره رغبةً تركية بجمع شمل المختلفين في الشمال السوري، حيث بدأ باستدعاء قادة الفصائل الى أنقرة والضغط عليهم من أجل التوحد بهدف مواجهة التحديات القادمة في إدلب، وتخفيف الضغط الروسي على تركيا في ملف منطقة “خفض التصعيد” في إدلب.
وقام الاندماج على محاصصة المناصب العسكرية بين الفصائل وإبعاد شرط الأقدمية للضباط المنشقين أو كفاءتهم، وهو العرف السائد لدى الفصائل منذ تشكيل كتائب الثوار الأولى نهاية عام 2011.
فما حصل في النسخة الأولى لـ”الجبهة الوطنية للتحرير”، من اشتراط بقاء القيادة العسكرية والسياسية بيد “فيلق الشام” تكرر حرفياً في نسخته الثانية مطلع الشهر الجاري. ولم يتم الاتفاق على شكل “مكتب سياسي” – حتى اللحظة – إذ راحت الفصائل الأربعة الرئيسة تتنازع على ضمان وجودها، وتسعى لكسر احتكار التمثيل.
والواقع إنه على رغم اندماج الفصائل، فإن قنوات الدعم وشكله لم تتغير عملياً بل بقي كل فصيل يتلقى دعمه المالي والعسكري كما في السابق. وهو ما يوحي بصورية الاندماج، وتأخر هيكلته المؤسساتية والتي تحتاج إلى وقت طويل في حال جدية الفصائل وقناعتها بجدواه. ذلك أن الضغط والدعم التركيين لن يكفيا لتحقيق اندماج كامل، ولا بد أن يتكرر الفشل الذي وقع في كل تجارب التقارب والتوحد السابقة.
أما داخلياً، فيتوقف نجاح التوحد على تمثيل الفصائل ضمن “المكتب السياسي” ولا شك ستعلو مطالبات الفصائل العشرة التي اندمجت مع الفيلق في المرحلة الأولى لتحصيل عضوية في المكتب السياسي. فالفصائل الكبرى على الأقل، مثل “جيش إدلب الحر” و”جيش النصر” و”الفرقة الساحلية الأولى” لن تتخلى عن تمثيلها السياسي الذي كانت بدأته في الهيئة العليا للمفاوضات منذ تأسيسها، أو في “الائتلاف الوطني”، حين صدّقت على ضم فصائل “الجيش الحر” إلى الائتلاف في 6 من تموز (يوليو) 2017.
ودفعت التفاهمات المستمرة بين أنقرة وموسكو في مسار أستانا، إلى استعجال الولادة القيصرية لـ”للجبهة الوطنية للتحرير” استعداداً لحل الوضع المعقد للغاية في محافظة إدلب، ويعتبر أكبر تحدياته إجبار “جبهة النصرة” على حل نفسها ودمجها بـ “الجبهة الوطنية للتحرير”.
ولعل الحديث عن ورقة تركية بيضاء قدمتها أنقرة لموسكو هو أكثر ما يوضح الآلية التركية لتهيئة الفصائل، لإدخالها في المسار الروسي للحل في إدلب وإعادتها لحضن النظام السوري على مراحل. وتبدأ الآلية بنزع السلاح الثقيل على مراحل، بعد الانتهاء من ملف “جبهة النصرة”، ومن ثم تحويلها إلى “قوات شرطة محلية” أو إلحاقها بـ”الفيلق الخامس – اقتحام” الذي تشرف عليه روسيا على غرار ما حدث في الجنوب السوري.
ولا يخفى على المراقب أن الفصائل السورية لم تكترث يوماً لجمع شملها، وأن مصيرها توحد مرتين فقط، الأولى عندما ركب مقاتلوها الباصات الخضراء في عمليات التهجير القسري، والثانية حين قبلت أن تنخرط في قوات خاضعة لسلطة النظام السوري في درعا.
وأكثر من ذلك، فإن ما يثير الاستهجان، هو ربط “التحرير” بـ “الجبهة الوطنية”. فماذا يبقى من معنى التحرير، وفصائل الشمال كلها التزمت طوعاً أو قهراً باتفاق أستانا ودخلت مسار الحل الروسي، ومن ضمنها “جبهة النصرة” التي سلمت أكثر من 300 قرية وبلدة شرق سكة قطار الحجاز وغربها، وكانت عرابة ذاك الاتفاق من دون شراكة مع أحد من فصائل “الجيش الحر”.
صحيح أن الاندماج الأخير لاقى بعض الترحيب، لكن المعطيات الدولية والإقليمية الحالية لا يبنى عليها كما في السابق. فهدف “التوحد كنواة لجيش الثورة ” بعد سقوط حلب، وحمص والغوطة، وطوق دمشق ودرعا، أصبح أشبه بمزحة سمجة، مع تراكم الهزائم أمام النظام وحلفائه.
فحتى البيان التأسيسي للجبهة، لا يأتي على ذكر أهداف الثورة، أو النظام كما ويتجنب أي توعد له، ويقتصر على رسائل سياسية يقرؤها الروس والإيرانيون والنظام أفضل من غيرهم، كمثل التأييد “لمؤتمر وطني جامع لأطياف الثورة جميعها، والإقرار جميعاً مستقبل أرضنا وبلادنا”.
ومن المدهش بمكان أن يحدث ذلك الانقلاب السريع بينما بيانات الفصائل بقيت إلى أمد قريب تصف النظام بـ “النظام النصيري المجرم”. فما الذي حصل فجأة؟ أبَلغَ الرُشد فيها أن انتهت من الخطاب الشعبوي الطائفي وتيقظت لمصلحة السوريين الوطنية بغتة؟
لا بد من الإقرار اليوم بأن الفصائل العسكرية هُزمَت! كلها من دون استثناء، وتحميلها أعباء الوطنية والتحرير، فات أوانه منذ زمن، ولم يبق إلا أن تدرك أن مهمتها تنحصر في تسهيل عودة النظام للسيطرة على ما تبقى من الشمال السوري.
المصدر : موقع سوريا