يقال، أنه حين وقعت روسيا معاهدة الصلح مع اليابان، إثر هزيمتها في حرب العام 1905 صعُبَ الأمر على طائفة الروم الأرثوذوكس في لبنان، ونُقل عن أحد وجهائها قوله في حينها “إذا كان القيصر نقولا الثاني قد قبل الصلح مع اليابان، فنحن نرفضه”.
شيء من هذا القبيل يمكن قوله الآن، بالنسبة لأولئك اللبنانيين، الذين تعزز تأييدهم للدور الروسي في الحرب السورية، بعد المبادرة الروسية لإعادة المهجرين السوريين إلى سوريا “الآمنة”. ومن دون أن يلتفت هؤلاء إلى ما حل بهذه المبادرة، وما واجهته من صد أجبر روسيا على تخطيها، مرحلياً على الأقل، يستمرون، ليس في دفع المهجرين السوريين إلى المغادرة اليومية فحسب، بل ويدفعون لبنان بأسره إلى الأتون السوري، الذي لا يزال متوقداً.
الصخب الإعلامي، الذي حرصت روسيا على إحاطة مبادرتها به، خبا بشكل شبه كلي تقريباً. وغابت عن الإعلام الروسي في الأيام الأخيرة بيانات المجالس المتشعبة المولجة بمتابعة المبادرة، وتقارير السفارات والممثليات الروسية في البلدان المتعددة المضيفة للمهجرين السوريين، حول أعداد هؤلاء وتصنيفهم بين راغب في العودة ورافض لها. كما خفتت تصريحات المسؤولين الروس، على مختلف مستوياتهم، في تصنيف البلدان والمسؤولين السياسيين في العالم بين “مؤيد” للسلام في سوريا، و”داعم” للإرهاب واستمراره في تدمير سوريا وقتل السوريين، واستقر الاتهام للمجتمع الدولي ككل عند منظمة الأمم المتحدة و”تعميمها السري” على كافة مؤسساتها بعرقلة إعادة إعمار سوريا وعودة مهجريها يبدو من خلال الإنعطافة الروسية الأخيرة، أن روسيا كانت “تصدق” فعلاً أنها قادرة على فرض النهاية، التي تراها للحرب السورية، وأن الجميع سوف يخضع لابتزازها ويسارع إلى المساهمة في إعادة إعمار سوريا “الروسية” هذه. ولذا حرصت على أن تبدو وكأنها قد “فوجئت” بالرد الحازم من قبل الولايات المتحدة، الذي أبلغه مستشار الأمن القومي الأميركي ريتشارد بولتون إلى زميله الروسي في لقائهما في جنيف، وأكد عليه لاحقاً المسؤولون الأميركيون، على مختلف المستويات، كما أعلنت الناطقة باسم الخارجية الأميركية في 29 من الجاري.
في ردها على الخطاب الأميركي المتشدد هذا، والذي اعتبرته روسيا بأنه محاولة لحرمانها من كل “منجزاتها” في سوريا، حسب صحيفة “NG” الروسية، تعمدت روسيا تصعيد لهجتها إلى مستويات مرتفعة جداً، وإرفاقها بتحريك أساطيلها إلى الشواطئ السورية، والحديث عن مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة، بل والتلميح إلى نصب سلاح نووي في سوريا.
فقد نقل موقع “cursorinfo” الإسرائيلي الناطق بالروسية، في 26 آب/أغسطس الجاري، عن النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الاقتصادية في مجلس الدوما فلاديمير غوتييف قوله، بأن على روسيا أن تفكر في نصب سلاح نووي في سوريا “رداً على العقوبات الأميركية” الجديدة. ونقل الموقع عن الرجل قوله، بأن الولايات المتحدة، في سياسة الضغط على روسيا”، تخطت “الخط الأحمر”، ولذلك ينبغي على روسيا التفكير برد متكافئ، مثل نصب سلاح نووي تكتيكي خارج البلاد، على غرار ما تقوم به الولايات المتحدة. وقال غوتييف، بأنه يعتبر أن روسيا ملزمة الآن برسم “خطوطها الحمر” أيضاً، وأن الوقت قد حان لتختبر روسيا ما يقترحه الخبراء من ردود بديلة على الولايات المتحدة، لا تلغي مفعول عقوباتها فحسب، بل وتلحق بها ضررا مقابلهاً.
من جانب آخر، نقلت وكالة نوفوستي، في 29 من الجاري، عن عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الدوما سيرغي جيلزنياك، في تعليقه على أنباء قيام البنتاغون بنصب أجهزة مضادة للصواريخ في بعض مدن الشمال السوري، قوله إن أعمال العسكريين الأميركيين في سوريا تبدو وكأنها محاولة لإثارة دورة جديدة من النزاع المسلح في سوريا، وتثبيت أقدامهم في سوريا، وخلق مركز نفوذ لهم في هذه البلاد. ولا تفوت الرجل الإشارة إلى دور “الخوذ البيضاء” في تمثيل هجوم بالسلاح الكيميائي ونسبه إلى النظام لكي يتسلح به الأميركيون وحلفاؤهم الفرنسيون والإنكليز لتبرير الضربة، التي هددوا بتوجيهها إلى النظام السوري في حال استخدام السلاح الكيميائي. ويقول النائب المذكور، بأن تحليل الوضع الراهن في سوريا الآن يقدم صورة واضحة عن العملية، التي يتم الإعداد لها، والتي ترمي إلى زعزعة النظام القائم، وضرب المفاوضات السلمية الجارية مع المعارضة. كما ترمي أيضاً، على قوله، إلى تشويه مساعي روسيا وحلفائها للتسوية في سوريا.
ويتوجه نائب الدوما المذكور إلى المنظمات الدولية، والأمم المتحدة على رأسها، بضرورة “التنبه” إلى الخطوات التخريبية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وإلى ضرورة بذل أقصى الجهود من جانب المجتمع الدولي للحؤول دون الهجوم المحتمل على “سوريا المستقلة”، تحت ذريعة مفبركة، ما يضع الحالة الإنسانية في البلاد على حافة الكارثة.
تحرص روسيا في ردها على التهديدات الغربية بتوجيه ضربة إلى النظام السوري في إدلب، في حال إصراره على تنفيذ هجومه على هذه المحافظة، بأنها لن تقف هذه المرة مكتوفة الأيدي، ودعمت كلامها هذا بتحريك سفنها الحربية باتجاه البحر المتوسط واستنفار قواتها الجوية في قاعدة حميميم. وتولت صحيفة “NG” الروسية المقارنة بين القدرات الحربية، التي تحركها روسيا، والقدرات المتوفرة لدى الولايات المتحدة في البحر المتوسط وعلى الأراضي السورية نفسها. وخلصت الصحيفة إلى القول بأن القاعدة الجوية الأميركية، التي يجري توسيعها في الحسكة، تتفوق بمواصفاتها على القاعدة الروسية في حميميم، وأن السفن الحربية الروسية قديمة الصنع في المتوسط، ليست متكافئة القوة مع الأسطول السادس الأميركي.
من جانب آخر، تقول صحيفة “kommersant” المعروفة بصلاتها مع وزارة الدفاع الروسية، بأن الولايات المتحدة الأميركية لن تلتفت إلى طبيعة الهجوم الكيميائي في حال حصوله، ما إن كان مفبركاً من قبل المعارضة، أو حقيقياً من جانب النظام، بل ستقوم بتوجيه ضربتها في حال حصوله. وتقول الصحيفة، بان التوتر “بل الجنون”، يميز سلوك كل من روسيا والولايات المتحدة، مما يشي، في حال عدم التوصل إلى توافق ما، بوضع العالم على حافة مجابهة شاملة في سوريا.
لكن ما كشفته نوفوستي الخميس في 30 من الجاري، عن لقاءات سرية للسفير الروسي في واشنطن مع عدد من المسؤولين الأميركيين، وبطلب من السفير نفسه، يشير إلى أن الخطاب الروسي مرتفع اللهجة يترافق مع استعداد دائم للتوصل مع الولايات المتحدة إلى توافق ما يستبعد المواجهة المباشرة معها في إدلب، والتي، في حال حصولها، تعيد روسيا إلى حجمها الفعلي.
المصدر: المدن