خرج الناس في إدلب يتظاهرون، شباباً ورجالا وكهولا ونساءً، يرددون الشعارات الأولى للثورة، ويكررون مطالبها وأحلامها وآمالها، ويرسمون مشهد شرارتها الأولى، ويعيدون بإصرار عنيد وبلا كلل أو ملل مطلب التغيير، لا لأجل التغيير أو إسقاط الأشخاص أو تفكيك أجهزة الرعب، بل لأجل حياة تستحق أن تعاش، وأجيال قادمة تتذوق منذ طفولتها لذة اللعب الحر، لتعرف حين تكبر كيف تبدع وتخلُق وتحلِّق.
حين شاهدتُهُم وسمعت بحات صرخاتهم، تساءلت للوهلة الأولى مثلما تساءل كثيرون: ألم يعلم هؤلاء أن الثورة قد انتهت، وأن معاقلها قد دمرت الواحدة تلو الأخرى، وأن الثوار منهم من قضى نحبه، ومنهم من سلم سلاحه، ومنهم من هاجر يائساً ومحبطاً يكتم ألم إخفاقه وينثر بقايا حلمه بالحرية على أرصفة الأرض الجديدة، بل منهم من أعلن توبته، ربما لأنه حين انضم إلى الثورة أدرك أنه أخطأ في حسابات الربح والخسارة، أو ربما لأنه عرف في قرارة نفسه بأن فجر الحرية لم يحن أوانه بعد وأن ليل العبودية طويل طويل.
ألم يدركوا أن إدلب، باتت قضية دولية، وأن مصيرها لم يعد بيد أبنائها، وأن مقاومتها ضد أي هجوم عالي التقنية وفائق الدقة لن تدوم أياماً معدودة، وأن ثمن احتجاجها سيكون مكلفاً، وأن العالم فقد مبالاته وأعار مشهد الوجع السوري جانبه المظلم، وهو بالمناسبة وجع إنساني حقيقي وعميق لا مفبرك أو ممنتج أو مصطنع.
ألم يعلموا أن الثورة قد اخترقت وشوهت وحرِّفت عن مسارها، وأن الثورة أجهز عليها أكثر المنادين بها، بعد أن حولوها من مطلب دولة إلى واقع دويلات، ومن مطلب حرية إلى ساحات جنون وعبث، ومن مطلب عدالة وإنصاف في توزيع الثروات إلى مافيات مال وأتاوات وعصابات سطو، ومن رغبة بإزاحة الاستبداد إلى أبشع صور الطغيان وأفشل نماذج في الحكم والإدارة.
ألم يلتفتوا إلى أن التظاهر الآن لن يُغيِّرَ من حال الأمور شيئاً، وعجلة الزمن لن تعيدنا إلى نسائم الأمل الأولى للثورة. فنحن نعاين مشهد النهايات، والستار يسدل على مشهد تاريخي فصلت عنه خواتيمه. ربما هي تظاهرات النفس الأخير للحلم الجميل الذي آمنا به جميعاً ولم يعد لدينا شيء نعد أو نحدِّثُ به أطفالنا من بعده، أو ربما هي ترنيمة الذاهب إلى الموت وقوفاً وافتخاراً وشموخاً كالأشجار.
شيء في حشود المتظاهرين طرد تساؤلاتي المفرطة في الواقعية. وجدت أن أكثر المتظاهرين أطفالاً وشباباً قد كبروا زمن الثورة، أي تذوقوا اللعب الحر في طفولتهم، فما عاد في زوايا قلوبهم مكان للخوف أو اليأس أو الاستسلام. ثم أنصتُّ ملياً فسمعت ثقة واقتحاماً في كلام الكبار وسقفاً عالياً في مطالبهم، رغم درايتهم بما يدور حولهم ومعرفتهم بمآلات الأمور.
رأيت في تظاهرات إدلب رسالة جلية وقوية بأن الثورة باقية ومستمرة، وأن ما حدث حتى الآن ليس سوى فصل أول من فصولها، وأن الكثير مما حصل لا يعنيها ولم يكن يمثلها أو ليحبط توثب روحها، وأنها من الاساس لم تكن لتتعسكر أو تتأدلج، أو لتقتحم المدن والمحافظات بالسلاح والمال. ولأنها كذلك فإن المال والسلاح والتقنية الفائقة والعمياء لن تهزمها لأنها لم تقصد منذ البداية أن تحارب الطغيان بأدواته التي هي أدوات دمار وقتل. بل لم تكن الثورة أطروحة نظام سياسي خاص، أو طاقماً بديلاً لاستلام السلطة، بقدر ما هي رفض عميق ونهائي لعودة الانتظام السابق وصور الولاءات المفروضة، ويقظة معممة على صورة حياة أخرى، وانبعاث لقيم كلية جديدة لا تعرف التخصيص وتتخذ الإنسان غاية لها لا وسيلة. هي قيم تسربت إلى النفوس واستقرت في قعرها، ولما كانت كذلك فإن هزيمتها تحتاج إلى أدوات أخرى غير أدوات الفتك الجسدي، والتي من المؤكد أن أعداء الثورة لم يحسبوا لها حساباً، بعد أن أخلى فيهم بطش القوة لديهم كامل الزاد والوفاض منها.
المصدر: المدن