في أعقاب هزيمة حزيران (يونيو) 1967، عندما هزمت «الضفدعة الإســــرائيلية» «الفيل العربي»، وأذلته إذلالاً تاريخــياً، ذهبت الإجابات، حول أسباب تلك الهزيمة المذلّة، مذهباً سطحياً ورغبوياً، فعلا صوت الإسلاميين بالقول: هُزمنا لأننا ابتعدنا من نهج السلف الصالح، وأجاب القوميون: إنها المؤامرة الإمبريالية المستمرة على «الأمة الخالدة وأنظمتها التقدمية»، و قال قسم ثالث: إن الدعم السوفياتي «لدول» المواجهة العربية ليس بفعالية الدعم الأميركي لدولة إسرائيل. هذا غيض من فيض مصفوفة الهذيان الأيديولوجي الركيك، الذي فاض لتعليق أسباب الهزيمة على مشجب الخارج.
وأثناء تلك السجالات ما دون السياسية، ذهب المفكر السوري ياسين الحافظ، الذي تصادف ذكرى رحيله هذه الأيام ( 28-10- 1978 )، مذهباً آخر، حيث اهتم بالأسباب الداخلية للهزيمة، التي تقبع في البنى المجتمعية والثقافية والأخلاقية والسياسية للبلدان العربية التي تعيش حالة «فوات تاريخي»، تجعلها تعيش في عصر غير عصرها، وتحكم عليها بالشلل واللافاعلية، وكان من أبرز المفاهيم التي استخدمها في تحليل واقعة «الفوات» مفهوم «التأخر التاريخي» الذي يتركز في الحيزات المجتمعية التي تنتج السياسة وتحكمها. فعلينا أن نعترف، وفق الحافظ، بأن الضفدعة لا يمكن أن تهزم فيلاً، لكن هذا الفيل، بالضرورة، خائر القوى وممزق العضلات ومشلول الأعصاب بفعل حالة التأخر التاريخي السائدة في «المجتمعات» العربية.
مرة أخرى، وبعد أزيد من خمسين عاماً على الهزيمة الحزيرانية، لا يزال مفهوم «التأخر التاريخي»، راهناً في دراسة وتحليل هزيمة «ثورات الربيع العربي»، التي تنازعها اتجاهان رئيسيان: الاتجاه الأول، حرّكته إرادة الحرية وكان مفتوحاً على الفضاءات الوطنية والآفاق السلمية الديموقراطية، والاتجاه الثاني، غذّته إرادة السلطة وكان متماهياً مع التشكيلات الاجتماعية ما قبل الوطنية، بوصفها عصبيات قابلة للاستثمار في سياقات مكاسرة الإرادات المـــتفرعة عن رجـــحان عوامل القوة والغلبة والقهر.
تغذّى الاتجاه الثاني الذي حرّكته إرادتا القوة و السلطة من ظواهر «التأخر التاريخي» المعشعشة في الاجتماع والثقافة والمعرفة والأخلاق، ومن آليات اشتغال النظام الإقليمي العربي الذي اكتمل تشكله نهاية السبعينات، حيث كان يعيد إنتاج تلك الظواهر باستمرار، ويدمجها مع وسائل السيطرة والإخضاع والاحتكار المطلق للثروة والسلطة.
لقد مثّلت «ثورات الربيع العربي» انفجاراً تاريخياً كبيراً، غلبت فيه ظواهر «التأخر التاريخي»، التي انبعثت من قيعان البنى المجتمعية التقليدية، إرادات الحرية لديها، وظل هذا الانفجار في أفق الملة ولم يستطع الدخول إلى أفق الدولة والأمة وملاحقهما، حيث هزم القسم الأكثر تأخراً من «المجتمعات» أقسامها الأخرى، واستقدمت الانقسامات العمودية جميع أنواع التدخلات الإقليمية والدولية التي فاقمت من واقعة التشظي المجتمعي. ولأن التأخر التاريخي غلب النزوع إلى الحرية والحداثة والدولة الوطنية، يصبح تفسير الذي حدث لاحقاً مفهوماً، مثل انتشار الميليشيات الطائفية المسلحة على حساب تراجع الأحزاب السياسية العمومية، ومعاندة وصلابة الهويّات في مواجهة يوطوبيا الحرية، وانتصار الجزئي على الكلي والنسبي على المطلق، وغياب الكليات لمصلحة طغيان الكلبية (السينيكية) المذهبية والطائفية، واغتصاب المجال العام من قبل قوى الإسلام السياسي. وتصبح مفهومةً أيضاً، واقعة انعدام تعاطف الرأي العام العالمي مع الثورات العربية والنظر إليها على أنها مجرد نزاعات أهلية ومذهبية، وليست تمرداً تاريخياً عارماً على استبداد مديد.
بكلام آخر، لم تستطع تلك الثورات إنتاج نفسها كونياً (كالثورتين البلشفية والفرنسية)، وذلك بسبب ضمور العام والكلي والإنساني في التعبيرات والتنظيمات والأطر والسياسات والخطابات التي ادعت تمثيلها، في مقابل الحضور الطاغي للخصوصيات المحلية ولخطابات وسياسات الأصول العرقية والدينية والمذهبية. كذلك يصبح مفهوماً الدعم الدولي الصريح لعودة النظامين الاستبداديين القديمين في كل من تونس ومصر، والذي يشي باهتمامه بمسألة استقرار المنطقة العربية أكثر من اهتمامه بتحديثها ودمقرطتها والدفاع عن حقوق البشر في نزوعهم إلى الحرية والكرامة الإنسانية.
لقد صار واجباً نقد «ثورات الربيع العربي» من داخلها استناداً إلى روح الحرية الذي عبّرت عنه بدايات الحراك الشبابي السلمي قبل أن تهزمه قوى التأخر والاستبداد المنبعثة من جوف التاريخ وجغرافيا «الدول» الدينية المحيطة ببلدان تلك الثورات.
المصدر: الحياة